كان مسجد رسول الله في المدينة المنورة أول ما بني، مسقوفًا على أعمدة من جذوع نخل، تتوزع على أرجاء المسجد، وقد رصفت أغصان النخيل فوقها تمنع أشعة الشمس وحرارتها، وتخفف من المطر أثناء نزوله، وينساب النور من خلالها إلى زوايا المكان وساحاته. وكان النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام إذا خطب، يقوم فيضع يده الشريفة على جذع من هذه الجذوع المنتشرة، وكثر الناس في المسجد فقال يومًا لأصحابه: { إن القيام قد شق علي }، فأشاروا عليه بصنع منبرٍ وكان في المدينة نجار واحد يعمل عند امرأة مسلمة أنصارية اسمها:"فُكَيْهة بنتُ عبيد"رضي الله عنها، كان اسم النجار "ميمونًا" فأرسل النبي عليه السلام خلف المرأة الأنصارية وقال لها: { مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادُا أجلس عليها إذا كلمت الناس}، فأسرعت بتلبية طلبه ، وأمرت النجار أن يذهب إلى غابة شمالي المدينة المنورة، فقطع من أخشابها من شجر يسمى :" الطرفاء " وعاد بها إلى محله ليصنعها. صنع "ميمون" النجار المنبر من ثلاث درجات، كانت الدرجة العليا واسعة بحيث إذا خطب النبي يقف عليها وإذا حانت الصلاة كانت صلاته عليها ليأتم به الناس ويتعلموا منه، وبعد انتشار المسلمين صار النبي عليه الصلاة والسلام بعد انتهاء الخطبة ينزل فيقف قرب المنبر إمامًا بالناس.
بعد أن وضع المنبر في المسجد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فصعد درجاته الثلاث وأشرف على الناس وبدأ يخطب بهم، وما هي إلا لحظاتٍ حتى سمع من في المسجد ما يشبه بكاء طفلٍ فنظرواإلى بعضهم مستغربين ما يحصل، وإذ بالصوت يصدر من جذع نخلٍ كان النبي يضع يده الشريفة عليه قبل أن يصنع المنبر، وازداد البكاء والحنين، وعلا الصوت كأنه تفجع ناقة تصرخ لانتزاع ولدها منها، فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام صاحب القلب الرحيم وضم الجذع إلى صدره كما يضم الوالد ابنه حتى سكن وهدأ، وكان هذا الأمر معجزةً عظيمةً للنبي الذي قال:{ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟} فأقبل الناس على الجذع فسمعوا من حنينه حتى كثر بكاؤهم ونحيبهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:{ لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة}.
ويروى أن الرسول قال للجذع: { اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت قبل أن تصير جذعًا يابسًا، وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها، فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله}، فقال النبي:{ اختار الجذع أن أغرسه في الجنة}، ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن بجانب المسجد، وبعد زمنٍ ولما أراد المسلمون توسعة المسجد حفروا الأرض، فأخذ سيدنا"أبي بن كعب" رضي الله عنه الجذع ولم يزل عنده حتى بلي وتقطع.
جذع حن إلى النبي محمد فكيف لا تحن قلوبنا إليه جذع بلا روح ولا دم ولا قلب أنّ وبكى فأبكى الحاضرينا