كلما طرق بابنا أيلول: يلوح في عيني طيف المطر ، وأتنسم نداوة الخريف وهدوءه الناعم ، رغم ما يجثم على صدر عالمنا من أحداث غليظة ، ونذر حروب ، وكوارث طبيعية ، وحرارة عالية ، وفلتان للأسعار ، ورغم توقعات تشير إلى تزايد تاثيرات الاحتباس الحراري ، وندرة المطر في بلادنا ، إلا أن للفلاحين بوصلتهم الأخرى ، التي تقول غير قولهم: الله كريم،،.
نحن نتفاءل بشهر أيلول ونتلقف إشاراته بكل حب ، ففي عرفنا أن لأيلول ذيلاً مبلولاً ، ولا محالة سيجود علينا بمطره الجميل ، ونتفاءل أكثر بالغُصلان (يسمى لدى بعض الأردنيين بالعصلان) ، وهو نبات بري ، من الفصيلة البصلية إي له بصلة كبيرة ، يكثر في المناطق الجبلية ، وبين الصخور ، يعطي أوراقاً خضراء سميكة ، في أوائل الربيع.
مع بواكير كل أيلول ، يبدأ الناس بمراقبة وجه الأرض ، فإذا بزغت عصي الغصلان الطرية ، أو ما يسميها أجدادنا (زنابيط الرّي) ، فهذه إشارة بشرى ، بأن أمامنا موسماً طيباً مفعماً بالخير ، والمطر ، والري الغزير. نهاية الأسبوع الماضي ، كنت أجول في بعض أحراشنا العطشى ، فسرني هذا الغصلان الجريء ، إذ يطرح زنابيطه بقوة ، مؤذناً بشراه في وجه هذا القيظ،.
وتذكرت كيف كنّا نلعب كقطط بين شواهد القبور ، وكيف كنا نسرق ما تيسر من ماء: من البراميل وجرار البيوت الباردة ، معرضين أنفسنا لعقاب ساخن ، كي نجبل طيناً ونشيّد قصوراً ، ونتراكض مطاردين خيالاتنا الهاربة منا ، لكننا كنا نهاب جلال الموت ، فلا نجلس على طرف قبر ، ولا نمس شاهدته بسوء. فقبور الموتى كانت تصادقنا ، ونصادقها،،.
عندما كان الغصلان يخرج زنابيطه فوق تراب تلك القبور أيضاً ، وينور بعد ذلك نواره الأبيض البهي ، كنا نعتقد أن بذوره الصغيرة السوداء ، إذا ما زرعت بعناية وهيبة في الحواكير ، فقد تنبت الأموات ، وتعيدهم إلينا من جديد ، ولهذا كثيراً ما كنت أقطفها عن القبور القديمة ، وأزرعها في حوش دارنا ، وأنتظر أوبة اصدقائنا الغائبين،.
ما زلت أذكر جدي بكامل هدوئه وحنوه ، إذ يتوضأ قبيل الغروب ، عند عتب التراب ، بذات الإبريق الأزرق ، منزوع الأذن ، ثم يهض باسماً ، ويمسد رأسي بيديه المبلولتين ، فيبردني بعد عقاب ساخن من لدن أمي ، جزاء على ثيابي الملطخة طيناً،.
كان يؤلمنا أن أجدادنا لم يعودوا إلينا ، بعد أن زرعنا بذورهم أكثر من مرة ، لكن ما يجعلني أنتشي فرحاً الآن ، أنني كلما مررت بقبر جدي ، ووجدت الغصلان قد نما حوله ، أقف بخشوع دامع: لأقرأ لروحه سورة الفاتحة ، فطالما أحب جدي أحب الغصلان ونواره. فلكم الرحمة ، أيها الأجداد الطيبون ، وللناس بشرى المطر،.