عند الغروب ، تنهي الشمس «ورديتها» فتخلع وهجها وتغيب ، يعود الآباء الى بيوتهم محملين بالخبز والقطايف والتعب اليومي ، تضاء البيوت ،تفرد الضحكات ، تتحاور الملاعق خلف الشرفات ، تفتح النوافذ الرئيسة لاستقبال الأذان القادم من بعيد ..وينتهي اليوم بسلام ..
عندما تتصاعد أبخرة «الحميمية» فوق البيـــــــوت الأفقية والشقق المرتفعة ، أفكر بالغرباء ..أفكّر بالماشين على صراط غربتهم ،المحرومين من ضجيج أطفالهم حول المائدة ..واعتناء زوجاتهم لحظة الإفطار ، ودعاء أمهاتهم بالعمر الطويل والرزق الحلال..
أتعاطف مع عامل وافد يمرّ كل يوم من امام بيتي..يحمل بين يديه زجاجة ماء ورغيف خبز ومعلّبات جاهزة ..يمضي وحيداً الى غرفته في طابق «التسوية» لبيت قريب ، يغلق عليه بابه..يشعل ضوء غرفته الأصفر ويفطر وحيداً على غربته المعلّبة.
**
كنت أحدهم ذات يوم ، أدخل الى المطعم اللبناني في منطقة البراحة - دبي ، اجلس الى طاولة يشاركني فيها ثلاثة غرباء آخرون ،تدور العيون حولي دون ان أحظى بترحيب أو تحية .. أحضر صحني وملعقتي..و أطوف بنظرة استكشافية سريعة ، فأتأكد أن جميعهم قد أتوا الى هدف واحد..الشعور بالحياة، ليس الاّ ..وما ان يحين الأذان ، حتى يضع كل منا عينه في طبقه..لا يسمع في قاعة المطعم سوى صوت طرق الملاعق في الصحون ،ومضغ «الجرجير»، وأصوات متناثرة هنا وهناك ليست الاّ طلبات زائدة : «رأس بصل، قرن فلفل، ابريق زيت» ...لبعض الزبائن غير المواظبين من سائقي الشاحنات والوافدين الجدد والقادمين «بتأشيرات الزيارة»..
صحيح أن فيروز كانت تغنّي في المطعم للغرباء من مسجّل صغير مرفوع على رف فوق «الكاشير»..لكنني لم اكن اسمع سوى صوت أمي..كان يوسف صديقي «الدرزي» يهتم بي أكثر من غيري فأنا زبونه اليومي ..لذا كان يختار لي طاولة صغيرة قرب النافذة وغالباً ما كان يحضر اليها غرباء لطفاء لا يخرجون أصواتاً من افواههم أثناء الأكل، ولا يستخدمون العنف المفرط مع قطعة الدجاج الوحيدة التي تترأس الطبق..وفوق كل ذلك..كان يكرمني برغيفي خبز طازجين كان يخبزهما «عبدو»الهندي ..و بعد ان ينسحب الجالسون من على طاولاتهم، يهرّب لي يوسف بعيداً عن عين المعلم إبريق شاي بالنعناع..لأسأله عن حبيبته القاطنة في جبل العرب ..وهو بدوره كان يسألني عن غربتي..
تتنزه العائلات في الشوارع ،يتجولون في المراكز التجارية والحدائق والشواطئ ..وانا كنت امضي بين الأزقة الى سكني مرتوياً بوحدتي ، متخماً بغربة نضجت على نار العمر ..ليصادفني الحج «ما شا الله الإيراني» أبو مجيد..مرحباً بعربية مكسّرة «هيّا الله باش مُهاندييييس»..من اين اتى بلقب الهندسة لا اعرف!!..لكني كنت أرد عليه التحية بأقصر منها : اهلين حجّي...
***
ايها الغريب المطوي على سريرك كرواية ،ايها المقتضب كمكالمة دولية ، يا من تعلّق قمصانك وأحلامك فوق رأسك الى إشعار آخر ..متى ستخلع ثوب وحدتك وتلبس ثوب رجوعك الأبدي...
**
ايها الغريب يا من تشبهني في جميع أوجاعي .. لا شيء يرعبني في هذه الدنيا الاّ الموت والغربة..وأنت..
احمد حسن الزعبي
theredrose
موضوع: رد: وحدة ...غربة 3/9/2010, 21:15
الله عليك يا احمد الزعبي والله لا مثيل لابداعاتك وما في امر من الغربة واختيار رائع يا مجد وفعلا خيالاتي بالمقال سرحت لبعيد
اسمر66660
موضوع: رد: وحدة ...غربة 3/9/2010, 21:24
ايها الغريب يا من تشبهني في جميع أوجاعي .. لا شيء يرعبني في هذه الدنيا الاّ الموت والغربة..وأنت..