اسمه وكنيته
هو عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري، أبو عبيدة، مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، وأمه أميمة بنت غنم. ولد سنة 40 قبل الهجرة/ 584م. وكان رجلاً نحيفًا معروق الوجه، خفيف اللحية طوالاً، أجنأ (في كاهله انْحِناء على صدره)، أثرم (أي أنه قد كسرت بعض ثنيته).
قصة إسلامه
كان أبو عبيدةمن السابقين الأولين إلى الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر، وكان إسلامه على يدي الصِّدِّيق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي، فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.
عمره عند الإسلام
أسلمفي بداية الدعوة، أي قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها.
من مناقبه
(1) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة؛ قال النبي: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعليّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة".
(2) حب النبيله وثناؤه عليه؛ روى الترمذي عن أبي هريرةقال: قال رسول الله: "نِعْمَ الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح".
وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أيُّ أصحاب رسول اللهكان أحب إلى رسول الله؟ قالت: أبو بكر. قلت: ثم مَن؟ قالت: عمر. قلت: ثم من؟ قالت: ثم أبو عبيدة بن الجراح. قلت: ثم من؟ قال: فسكتت.
أثر الرسول في تربيته
من هذه المواقف التي تدل على مدى تأثره بتربية النبيله:
في السنة الثامنة للهجرة أرسل الرسولعمرو بن العاصإلى أرض بَلِيّ وعُذْرة في غزوة ذات السلاسل، ووجد عمرو بن العاصأن قوة أعدائه كبيرة، فأرسل إلى الرسوليستمده، فندب النبيالناس من المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مددًا لعمرو بن العاص. فلما قدموا عليه، قال عمرو: أنا أميركم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال: إنما أنتم مددي. فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان حسن الخُلق، متبعًا لأمر رسول اللهوعهده، فقال: "تعلم يا عمرو أن رسول اللهقال لي: (إن قدمت على صاحبك فتطاوعا)، وإنك إن عصيتني أطعتك".
ومن أثر الرسولفي تربيته هذا الموقف البارع؛ فعن عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدةيحيد عنه، فلما أكثر الجرَّاح قصده أبو عبيدة فقتله؛ فأنزل الله فيه هذه الآية: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وما كان لأبي عبيدةأن يعزم هذه العزمة إلا بروح من الله، تنفض عن قلبه الطاهر السليم كل عَرَضٍ من أعراض الدنيا الفانية، وتجرده من كل رابطة وآصرة إلا رابطة العقيدة.
أهم ملامح شخصيته
الأمانة والقيادة
روى البخاري بسنده عن حذيفةقال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول اللهيريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعنَّا، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا. فقال: "لأبعثن معكم رجلاً أمينًا حق أمين". فاستشرف له أصحاب رسول الله، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح". فلما قام، قال رسول الله: "هذا أمين هذه الأمة".
الثبات في الميدان والدفاع عن الرسول
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت أبا بكريقول: لما كان يوم أُحد ورُمي رسول اللهفي وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول اللهوإنسان قد أقبل من قِبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله. فإذا أبو عبيدة بن الجراحقد بدرني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلاَّ تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله. قال أبو بكر: فتركته. فأخذ أبو عبيدة بثنية إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره، وسقطت ثنيَّة أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيَّةٍ أخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.
الزهد
أرسل عمر بن الخطابإلى أبي عبيدةبأربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار، وقال لرسوله: انظر ما يصنع؟ فقسّمها أبو عبيدة، فلما أخبر عمرَ رسولُه بما صنع أبو عبيدة بالمال، قال: "الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا".
مشاورة الجند
كانمن القادة الذين يستشيرون رجالهم في كل خطوة يخطونها، وعندما تحتشد الروم لاستعادة أرض الشام استشار أصحابه، فأشار عليه الأكثرية بقبول الحصار في حمص، أما خالد فأشار عليه بالهجوم على جموع الروم، ولكن أبا عبيدة أخذ برأي الأكثرية.
بعض المواقف من حياته مع الرسول
وكانممن ثبت مع الرسوليوم أُحد، وقد أسرع إلى رسول اللهونزع الحلقتين من المغفر اللتين دخلتا في وجنة رسول الله.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي جمعة حبيب بن سباع قال: تغدينا مع رسول اللهومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال: فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟! أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: "نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني".
بعض المواقف من حياته مع الصحابة
مع أبي بكر الصديق
بعث أبو بكرإلى أبي عبيدةهلُمَّ حتى أستخلفك؛ فإني سمعت رسول اللهيقول: "إن لكل أمة أمينًا، وأنت أمين هذه الأمة". فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم رَجُلاً أمره رسول اللهأن يؤُمَّنا.
وقال أبو بكر الصديقيوم السقيفة: "قد رضيت لكم أحد هذيْن الرجلين"، يعني عُمر وأبا عبيدة.
مع عمر بن الخطاب
كان عمريقول: "لم أكن مغيرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة".
وأول كتاب كتبه عمرحين وَلِي كان إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد، إذ قال له: "أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك...".
مع خالد بن الوليد
لما عزل عمرخالدًاوولّى أبا عبيدة، قام خالدوقال للناس: "بُعث عليكم أمين هذه الأمة". وقال أبو عبيدةللناس عن خالد: سمعت رسول اللهيقول: "خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة...".
بعض المواقف من حياته مع التابعين
وعن سليمان بن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراح: خذ من خيلنا صدقة. فأبى، ثم كتب إلى عمر بن الخطابفأبى، فكلموه أيضًا فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر بن الخطاب: "إن أحبوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم". قال مالك: أي ارددها على فقرائهم.
أثره في الآخرين
روى عنه أحاديث النبيمن الصحابة أبو ثعلبة جرثوم الخشني، وسمرة بن جندب، وصدي بن عجلان، ومن التابعين عبد الرحمن بن غنم، وعبد الله بن سراقة، وعبد الملك بن عمير، وعياض بن غطيف.
في تعليمه الفقه وغيره
عند الإمام أحمد بسنده عن أبي أمامة قال: أجار رجل من المسلمين رجلاً، وعلى الجيش أبو عبيدة بن الجراح، فقال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص: لا نجيره. وقال أبو عبيدة: نجيره؛ سمعت رسول اللهيقول: "يجير على المسلمين أحدهم".
بعض الأحاديث التي نقلها عن المصطفى
في سنن الدارمي بسنده عن أبي عبيدة بن الجراحقال: قال رسول الله: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير".
وفي سنن الدارمي أيضًا عن سمرة، عن أبي عبيدة بن الجراحقال: كان في آخر ما تكلم به رسول اللهقال: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".
بعض كلماته
- قال يوم السقيفة: "يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغيَّر".
- ومن أهم كلماته في إثارة حماسة جنده للحرب وتحريضهم على الجهاد مقولته تلك: "عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. عباد الله اصبروا؛ فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، لا تتركوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق (أي الدروع)، والزموا الصمت إلا من ذكر اللهفي أنفسكم حتى يتم أمركم إن شاء الله".
وفاته
تُوُفِّي أبو عبيدة بن الجراحفي طاعون عَمْواس سنة ثماني عشرة، عن ثمانٍ وخمسين سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل