رسائل تتحدى النار والحصار
أسكرني الألم
كم تغير طبعي يا عبد الله!!
وكم تراجع إحساسي.. أيها النبض المتحرك في دمي!!
آه.. يا إلهي… كم كنت مرهفة.. وشفافة!!
كنت.. إذا سالت قطرة من دمي - بفعل خطأ في استعمال سكين المطبخ – أجري
من غرفة إلى أخرى، أبحث عن قطعة قطن أسد بها فوهة الجرح المتدفق..
وإذا أبرق رأسي بألم خفيف، كنت أصرخ.. بل أبكي، وأهرع إلى كل أنواع
المهدئات.. ثم أصر على زيارة الطبيب.
هل تذكر يا عبد الله؟!!
كنت.. إذا رأيت حيوانا يذبح، أصاب بالهلع، وأقضي الليل كله تحت
تأثير كابوس مرعب..
وكنت أنت تسخر مني.. بل ويستهويك ذاك الرعب الشهي الذي ألقيه بين
يديك لترى نفسك كبيرا جدا، وتراني طفلة صغيرة جدا…
إنك تذكر ذلك يا عبد الله…
تذكر إحساسي الفاضح بالألم مهما كان هينا العالم كله يذكر ذلك، لأن ضعفي
أمام كل ألم كان مكشوفا ومباشرا.. اليوم… أسكرني الألم
يذبحونني كل يوم من الوريد إلى الوريد دون أن أصرخ أو أحرك ساكنا..
صداع حاد يلازمني، أمزق معه شعري المستسلم لغيبوبة طويلة – دون
أن أحاول استشارة الطبيب، أو حتى تناول قرص مهدئ.. بل أصبحت
أنتظره بشوق غريب،
لأنه الوحيد الذي يجعلني أغيب عن هذا العالم المجنون.
اليوم.. أجد نفسي أسبح في حمامات الدم دون أن تتقزز نفسي.. بل أشعر برغبة
ملحة تدفعني لأن أطيل النظر فيه أكثر..
فلم أعد أحس بما يدور حولي.. بما يزلزل أسواري التي كانت آمنة..
فقد أسكرني الألم :
ألمُ الرصاصة التي اخترقت صدر وفاء وهي ترسم طفولتها أمام الخيمة..
ألمُ النفي الذي رمى بعائشة في ممرات باردة..
المُ الجنين الذي انتزعوه من أحشائي بحجة أنه سيكون متمردا..
ألمُ زيد وهو يذبح أمامي كطائر منبوذ..
وألمُ زوج منعوه حق العودة.. فقضيته سقطت بالتقادم كما كل القضايا..
كم أسكرني الألم الذي أصبح يتسكع في أروقة أجسادنا، فيلتهم الحب والأمل،
وبقايا ابتسامة صفراء..
أسكرني الألم الذي يتمدد بغطرسة على مساحة قلوبنا، فيقتل آخر إحساس بالألم….
صدقني يا عبد الله.. لم يعد يؤلمني ما يحدث حولي.. لم تعد ترهق إحساسي هذه
الجثث التي تتهاوى في كل خرائطنا العربية
حتى لو رماك البحر جثة هامدة أمامي.. لن أبكي.. لن أصرخ.. لن يقتلني الألم..
بل سأواريك التراب بهدوء تام
فقد أسكرني الألم
القاصة الجزائرية زكية علال