كان والدي, يعاملنا ـ انا واخواتي وامي ـ معامله مهينه حتي فقدت امي الحياه, كمدا, ورفض تسلم جثتها ودفنها, ثم تزوج بعدها عده مرات, وبعد ان ذهب لاداء العمره, انقطعت اخباره عده سنوات حتي صدر قرار المحكمه بفقده, وحصلنا علي ميراثه, ولكن شاءت اراده الله ان اجده مصادفه بعد سنوات, عجوزا منهكا, فاقدا للذاكره, يمسح سلالم العمارات, ويتسول ثمن طعامه, ودوائه, بعد ان كان في رغد من العيش, يحرمنا نحن منه, ويهيننا في اعمال مرهقه لننفق علي انفسنا!
فجمعت اخواتي, واخذتهم ومعنا المحامي وذهبنا لنري ابي الذي عاد.. سالنا عليه, فدلنا اولاد الحلال علي مكانه, وعلمنا انه تم نقله الي احد المستشفيات الحكوميه, فذهبنا اليه هناك, وراينا مشاهد مولمه, فقد كان ينام علي مرتبه متهالكه, في حجره كئيبه, بها كثير من المرضي, الذين اخبرونا انه يذهب كثيرا في غيبوبه, وان الاطباء يريدون ان يخرجوه, ولكنهم لايعرفون اهله حتي يتسلموه.
ذهبنا للطبيب لنسال عن حالته, فقال انه يعاني من امراض كثيره: ضغط وسكر ومياه علي الرئه, وتليف بالكبد, ودوالي بالمريء, نقلناه الي احد المستشفيات النظيفه بالقاهره علي مسئوليه المحامي, وعندما افاق من الغيبوبه بكي بشده, وقال: وحشتوني, لماذا لم تاتوا الي منذ فتره, بكينا من هذه الكلمات, ومن حالته الماساويه, ومن وصف الاطباء لامراضه الكثيره, كان يقول هذه الكلمات ودموعه تغرق وجهه الذي سكنته الشقوق والجروح, وكانه كان يشعر اننا اولاده!!
بعد ايام, طلب منا الاطباء الاهتمام بعلاجه, ونظافته, ومعيشته, وفوجئنا به يطلب منا ان نخرجه من المستشفي لانه علم ان الغرفه التي يقيم بها غاليه الثمن, وسامح الله شقيقتي, فقد قالت له: انت في حجره متحلمش بيها اخفي وجهه في الملاءه, وقال لي: اخرجيني يا ابنتي من هنا, واقرضيني ثمن العلاج, وسوف اسدده لك ان شاء الله, فقالت له اختي, ومن اين ستسدد؟ قال: سوف اعمل, سانظف البيوت, وامسح السلالم, هذا هو عملي, وان لم استطع تسديد دينكم ساعمل عندكم بثمن العلاج, امسح سلالم شققكم, وانظفها!
لم تعط شقيقتنا لنا فرصه لنشفق عليه بعد هذا الموقف, فعلي الفور قالت له: لقد كان لنا اب, لكن لم يرحمنا, ولم يرحم امنا, حتي وهي مريضه, فكان يجبرها علي العمل ويقول لها اشتغلي بلقمتك علي الرغم من انه كان يمتلك كثيرا من الاموال, ولكنه اليوم علي استعداد للعمل عند اولاده, يخدمهم, ليسددوا نفقات علاجه, وهنا تدخلت انا, واخبرته اننا ننفق هذه الاموال عليك صدقه عن امي المتوفيه, فانت مثل والدنا, نهرتني اختي قائله: متطمعهوش فينا, انت السبب, ربنا ياخدك معاه, كان لازم تقابليه, وترجعيه تاني.
اصر احد اخوالي علي الذهاب الي اعمامي, ليخبرهم ان اخاهم ابو البنات قد عاد, وانه حي, لم يمت, ويعالج في المستشفي, فكذبوه, وحضروا الي المستشفي, وحدثت بيننا خناقه كبيره وضربونا, وكانت فضيحه في العائله, ولكن خالي ذهب الي قسم الشرطه, وعمل محضرا ضد اعمامي, وجاء امين الشرطه للمستشفي ليسال العجوز: انت مين؟.. قال: انا معرفش حاجه, هولاء البنات ساعدوني, واحضروني للمستشفي للعلاج, وقال للاطباء اني فاقد للذاكره, ولكني لو كنت فعلا اباهم, فانا مش عاوزهم يعرفوني تاني.. قالها, وهو يبكي بحرقه, فكيف لاب ان يضرب بناته, ويعذبهم, بل ويكون سببا في وفاه امهم, هل كنت انا هذا الوحش, ان كنت كذلك, فلا اريد ان اذكرهم بما عانوه معي!!
خرج الرجل من المستشفي, بعد علاجه, وعلم اننا بناته, وكان كلما يري واحده منا يداري وجهه, وهو يبكي ويقول اللهم قصر ايامي فاقول له انت مش مبسوط انك عرفت ولادك, فيقول كان نفسي اكون مبسوط ولكن ذكرياتي معكم ذكريات موت ولهذا لن استطيع العيش معكم, ساعود الي حجرتي الصغيره, اكنس وامسح السلالم, والبيوت, ولكن كل ما اطلبه منكم يا ابنتي هو ان تسامحوني.. سامحوني ارجوكم!!
كررها اكثر من مره... سامحوني, فقلت له لو سامحناك نحن في حقنا, فمن يسامحك في حق امي؟... فقال وهو يبكي يا ابنتي.. ياويلي من عذاب الله, فلا ادري ماذا اقول لربي عندما يسالني, لماذا لم تنفق علي بناتك, وقد رزقتك مالا كثيرا, لماذا تركتهن ومعهن زوجتك المريضه يعملن لينفقن علي انفسهن؟
.. ماذا ساقول لربي اذا سالني لماذا لم تتسلم جثه زوجتك, وتدفنها؟!
اخذته اختي الوسطي بعدها ليعيش معها, ولكنها ـ سامحها الله ـ كانت تعطي له العلاج علي معده خاليه لانها كانت تقوم من النوم متاخره, وكان اول طعامه هو العيش الناشف فكان يطلب منها ان تبلل له العيش ليستطيع مضغه, فكانت تغرق العيش في الماء حتي يتفتت, فيلملمه باصابعه الضعيفه, وهو لا يملك ما يسد جوعه غير ذلك, وكانت كلمته التي يرددها دائما اهي اكله والسلام!
لا استطيع ان انسي مشهده, عندما ذهبت لزيارته يوما, فوجدته جالسا عند باب الشقه من الداخل, حزينا وخائفا فسالته ماذا جري؟ فاخبرني انه تبول لا اراديا علي مرتبه السرير وان شقيقتي قد نبهت عليه الا يفعلها مره اخري, بكي بشده وترجاني ان ارحل به من عندها, فاخذته وذهبت به الي اختي الاخري, فقد كنت رافضه ان يعيش معي في الشقه, فانا اعيش منفرده, وكنت لا اريد ان اعيش لخدمته, وكنت اقول لنفسي في بعض الاوقات اتركيه يتبهدل عند ولاده ثم اذهبي به لحجره الموت التي كان يعيش فيها.. اعرف انكم جميعا ستدعون بان ينتقم الله مني, وقد قلتها بالفعل لنفسي!!
عندما دخلنا علي اختي باغتته بسوال: انت لسه عايش, وكمان هتعيش معايا! تعلق الرجل في يدي, وبكي, واستحلفني الا اتركه, واصطحبه معي, فاخبرته انها ايام قليله, ثم يعود الي حجرته الاصليه, تركته , ولكن ظلت نظره عينيه لا تفارقني دقيقه, وهو يتوسل لي الا اتركه, فعدت بعد اسبوع لزيارته, فوجدته نائما علي كنبه ببلكونه المنزل, وعلمت ان شقيقتي كانت تكلفه بنظافه المنزل, ومسحه, وكانه خادمه, حتي ان زجاج الشباك اصاب اصبعه, فلم تكلف نفسها عناء علاجه, وتركته ينزف ويعاني!!
امسك بيدي ورجلي, وترجاني ان اعود به الي حجرته, ووعدني انه سيطلب من اولاد الحلال سداد ما انفقناه عليه في علاجه, اخذته, وذهبت به الي حجرته الصغيره التي يسكن بها في مدينه طنطا, واعطيت اموالا لشيخ المسجد لكي يقوم علي رعايته, ثم سافرت, وما ان نزلت في محطه القطار, الا ووجدتني اعود مره اخري, واستقل القطار العائد الي طنطا, وعندما دخلت عليه انهار في البكاء, وقال كنت اعلم انك ستعودين, انت فقط من اشعر بك, استلقيت في حضنه ـ لاول مره ـ انه ابي ياخذني في حضنه الدافيء, بكيت علي كتفيه, غمرت وجهه الدموع, ثم سالني: هل سامحتيني.. فرحت في صمت عميق, ولكنه ليس علامه عن الرضا!!
لم استطع ان اتركه بعد كل ذلك, واصطحبته معي الي شقتي, كنت ابحث عن رضا ربي, قبل اي شيء, علي الرغم من النار الدفينه التي كانت تسكن احشائي مما فعله معنا.. عشنا معا فتره شعرت فيها ـ لاول مره ـ بطعم ان يكون لك اب يربت علي كتفيك, يحنو عليك, كنت ادخل الشقه فاجده واقفا في الشباك ينتظرني, ويطمئن علي, كان يطلب مني ان اخذه الي مقبره والدتي, وعندما وقف امامها, بدا في قراءه القران, وبكي كثيرا, ثم طلب منها ان تسامحه, وان تشفع له عند الله ليسامحه.
لا انسي هذه الاوقات التي كان يساعدني فيها في لملمه اوراقي التي كنت احضرها معي للعمل بالمنزل, ثم نبدا في اللعب علي الكمبيوتر, لم اعد احتمل البيت بدونه, فقد كان يذهب لزياره حجرته, التي كان يسكن بها, فلم اتحمل هذه الساعات, وذهبت فورا لاحضاره, لا اخفي عليكم , انه حتي النوم اصبح له طعم في وجوده, فكنت استغرق في النوم, وانا مطمئنه ان ابي معي في المنزل, يحرسني بدعواته التي لا تنقطع, ربنا يكفيك شر عباده يا بنتي!!
في هذه الاوقات قررت ان اذهب لقضاء العمره, وعندما اخبرته, ضحك, وقال: اوعي تفقدي الذاكره..وبكي, وقال لي, ومن سيزورني, ثم بدا يوصيني بالدعاء, ووعدته بان اصطحبه معي في المره القادمه, سافرت بعد ان اعطيته تليفونا محمولا لكي اطمئن عليه, وبعدها علمت انه مرض, ولم يجد احدا يدخله المستشفي, وبعد ان قضيت عمره رمضان, عدت, واخذته الي المستشفي, كان يعاني في هذه المره, يبتسم كثيرا, ويبكي اكثر, ويشرد بناظريه اكثر واكثر.. وكان يردد دائما: تري يا ربي هل خففت عذابك عني, تري هل تقبلت دعوتي؟.. هداته, وقلت له: ارحم نفسك, ولاول مره نبض قلبي بالدعاء له, ان يشفيه, تركته في اليوم التالي, وذهبت لعملي, وعدت مسرعه بعد ان اتصلت بي الممرضه, لتخبرني انه في غيبوبه, فاقتحمت حجره الرعايه المركزه, ورميت نفسي فوق صدره, وبكيت, كما لم ابك من قبل, وصرخت باعلي صوتي.. يارب, دعه يشعر بي, ولو لحظه واحده, لكي اقول له: سامحني.. سامحني علي كل لحظه عاملتك فيها بجفاء, فقد كان كل ذلك رغما عني.. جلست عند قدميه, وقبلتهما, ثم قبلت راسه, واستحلفته الا يتركني, وطلبت منه
ان يغفر لي, ثم ذهبت لاصلي, وما هي الا لحظات, وحضرت الممرضه, لتقول لي: البقاء لله!...
رحل ابي, ورحت انا في غيبوبه, وعلمت بعد ان افقت ان اعمامي رفضوا دفنه في مقابرهم, فدفنه خالي في مقابر العائله, بجوار امي, التي رفض ـ سابقا ـ استلام جثتها, وياللقدر , فربما تكون قد سامحته هي الاخري!
الان لم اعد اجد من ينتظرني بالمنزل, لم يعد هناك من يدعو لي, اصبحت اعيش في وحشه الوحده, ويبدو ان انتقام الله قد بدا معنا.. نعم لقد بدا انتقام الله معي, واخواتي, فقد مرضت بهوس نفسي, كنت اقطع هدومي, واجري في الشارع, واصرخ, وابكي.. اضحك, وارقص, ثم اعود لاصرخ: ابويا مات.. ياناس, ابويا مات!!
اما شقيقاتي, فسوف اقول لك ماحدث لواحده منهن فقط, وهي التي كانت تطعم ابي العيش الناشف فقد اصابها مرض البهاق في جسدها كله, ولم يتحملها احد, حتي اولادها, وزوجها, وطلبوا مني ان اخذها لتعيش معي!!
ولكن قبل ذلك كله مازال لدي سوال ابحث له عن اجابه: هل سامحني ابي؟!