بسم الله الرحمن الرحيم:-
وقفات مع الذنوب والخطايا وحاجتنا إلى الاستغفار
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، أمّا بعد.. فسؤال وحديث..
أمّا السؤال فهو لو سألت أحدهم: ما سعة ذاكرتك؟ ماذا قلت، وماذا فعلت، ماذا سمعت، وإلى ما نظرت، منذ أن صرت مكلفاً؟ الإجابة طبعاً بالإجماع ستكون: لا أذكر ممّا فات شيئاً إلاّ قليلاً جداً، لا تُقارن بما مضى ممّا فات من أيّام سني عمري، بل إنّ أحدنا قد يحتاج إلى وقت ليذكر عشاءه البارحة! هذا هو السؤال..
أمّا الحديث فقد روى مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان من آخر ما يقول في الصلاة بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلاّ أنت».
والمناسبة بين السؤال والحديث أنّنا بحاجة ماسة إلى الاستغفار أي طلب المغفرة من العزيز الغفار بحاجة إلى توبة عامة من جميع الذنوب والمعاصي ما علمنا منها وما لم نعلم.
وعودة سريعة إلى مفردات الحديث، قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لي ما قدمت» أي: ما تقدم قبل ساعة دعائي هذا، «وما أخرت» أي: ما سيصدر مني بعد ساعتي هذه، وهذه ـ بالمناسبة ـ ليست رخصة للوقوع في الذنب، لكن مع حرصي يارب على اجتناب الذنب، إلاّ أنّني من صفتي النقص والزلل، فالكمال لك وحدك، «وما أسررت» أي: ما أخفيت من قول أو عمل، أو ما حدثت به نفسي، «وما أعلنت» أي: ما أظهرت من قول بلساني أو عمل بجوارحي،
وبذلك شمل جميع الذنوب، لأنّها إمّا سر وإمّا علن، ثم قال: «وما أسرفت» أي: جاوزت به الحد في أموري كلها «وما أنت أعلم به مني» من ذنوبي وإسرافي في أموري وغير ذلك، وهذا من عطف العام على الخاص، فلاشك أنّ الله سبحانه أعلم من كل شيء بكل شيء، «أنت المقدم وأنت المؤخر» تقدم من شئت بفضلك ورحمتك، وتؤخر من شئت كما تقتضيه حكمتك، فلا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم، سبحانه له الملك والأمر من قبل ومن بعد، «لا إله إلاّ أنت» توحيد واعتراف بأنّه لا معبود بحق إلاّ الله، فهو الإله الحق وما سواه ودونه باطل، فلا يطلب التوفيق إلاّ منه، ولا مغفرة للذنوب إلاّ من لدنه.
فما أحوجنا إلى مثل هذا التضرع وإلى مثل هذا الدعاء، فكم أخطأنا، وكم أذنبنا، وكم تبنا ثم نكثنا!
كم ليلة أودعتــها
مأثـما أبدعتـــــها
لشـهوة أطعتها
في مرقد ومضجـــع
وكــــم خطى حثثتها
في خزية أحدثتـــها
وتــــوبة نكثتـها
لملعــب ومــرتع
وكم تجــرأت علـى
رب الســـموات العلىّ
ولــم أراقبـــه ولا
صدقت فيــما أدعي
أخطاء نذكرها وما نسيناه أعظم! ولكن الله لا ينسى فعلمها {عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [سورة طه: من الآية 52].
إن أحدنا قد يتذكر ذنباً واحداً ويشفق منه، كيف سيقف بين يدي الله العظيم، ويقر بهذا الذنب؟ فكيف بذنوب نسيناها وربّما لم نتب منها؟ {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المجادلة: 6] يوم يوضع كتاب أعمال كل واحد في يده، فترى الخوف في عيون الذين تجرؤوا على محارم الله {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف: 49].
في ذلك اليوم لا تقبل فدية ممّن حق عليه العذاب ـ والعياذ بالله ـ {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [سورة الزمر: 47] يوم العرض يبدو كل شيء إلا من ستره الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [سورة الحاقة: 18].
فيا أيّها الحبيب احرص على هذا الدعاء ما استطعت «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلاّ أنت»
احرص عليه ما استطعت، وخاصة في الصلاة، لاسيما قبل التسليم لعل الله يكتب لك مغفرة لجميع الذنوب، فتكون ـ والله ـ من الفائزين في الدنيا والآخرة.
وكن من لقاء ربّك مشفقاً، ومن الساعة مشفقاً، ومن عذاب ربّك مشفقاً، ولا تكن كبعض النّاس يمشي ويضحك وكأنّه ضمن الجنّة!
فلست أكرم على الله من حبيبه الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك يقول: «يا أيّها النّاس توبوا إلى الله واستغفروه فإنّي أتوب في اليوم إليه مئة مرة» [رواه مسلم].. نعم! فمهما بلغت أعمالك فحق الله العظيم أعظم!
قالت أم العلاء بنت الحارث الأنصارية - رضي الله عنها: اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أنّ الله قد أكرمه؟» فقلت: بأبي أنت يارسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: «أمّا هو فقد جاءه اليقين والله إنّي لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبدا. [رواه البخاري]. فمن ذا الذي يزكى نفسه بعد ذلك؟ {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [سورة النجم: من الآية 32].
فاشفق على نفسك وتذكر دائماً التوبة من كل الذنوب، ما علمت منها وما لم تعلم، واعلم ـ أيّها الحبيب ـ أنّ السفر بعد هذه الدنيا بعيد، وبأنّ العقبة كؤود، وأنّ الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلابد من دخول القبر! فالسفر بعيد والزاد قليل والموت يطلبك اليوم أو غداً، فاشكر حلم الله عليك، واغتنم ما تبقى من العمر!
سفري بعيد وزادي لـــن يبلغني
وقوتي ضعفت والمــوت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمــها
الله يعلمها في الســـر والعلن
وأنا الذي أغلق الأبواب مجتهــداً
على المعاصي وعين الله تنظرني
ما أحلم الله عني حيث أمـــهلني
وقد تماديت في ذنبي ويســترني
فلا تغــرنك الدنيا وزينــــتها
وانظـر إلى فعلها في الأهل والوطن
يانفس كُفي عن العصيان واغتنمي
فعلا جميلاً لعل الله يرحمــــني
يانفس ويحك توبي واعملي حســـنا
عسى تجزين بعد الموت بالحسن
وامــــنن علي بعفوٍ منك يا أمـلي
فإنّك أنت الرحمن ذو المــنن
فاللهم استرنا في الدنيا والآخرة، واغفر لنا ذنوبنا كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلاّ أنت.
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه، ومن طاعته ما يبلغنا جنته، وأن ينير بصائرنا ويطهر قلوبنا ويكفينا شر ذنوبنا، وأن يتجاوز عنّا وعن والدينا وشيوخنا وأرحامنا والمسلمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجلعنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل خير أيّامنا يوم لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، ربّنا ارحم والدينا كما ربونا صغارا، والحمد لله رب العالمين.