مقال بصيص ضوء في آخر النفق الشيخ السعدي , نص مقال الشيخ السعدي بصيص ضوء في آخر النفق مقال بصيص ضوء في آخر النفق الشيخ السعدي , نص مقال الشيخ السعدي بصيص ضوء في آخر النفق مقال بصيص ضوء في آخر النفق الشيخ السعدي , نص مقال الشيخ السعدي بصيص ضوء في آخر النفق
باتت المظاهرات المناوئة لحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، والتي تشهدها محافظة الأنبار (غرب)، أجندة جديدة أمام ممثل الأمم المتحدة في العراق.. فبعدما كانت زياراته تقتصر على كبار مراجع الشيعة وفي مقدمتهم آية الله علي السيستاني، الآن هناك جهات أخرى لم تكن في حسبانه.. فالمظاهرات التي دخلت شهرها الثاني أفرزت حقيقة جديدة وهي بروز رجل دين سني كان له تأثير كبير في توجيه الأحداث خلال الفترة الماضية، وتحديد بوصلة المظاهرات، وهو العلامة الدكتور عبد الملك السعدي مفتي الطائفة السنية العام في العراق ويكاد يكون مرجعهم في بلد تعددت فيه المرجعيات الدينية والسياسية.. فبعد زيارة الموفد الدولي مارتن كوبلر إلى مدينة النجف حيث التقى هناك السيستاني الذي لم يقابل منذ أكثر من سنتين أي مسؤول تنفيذي عراقي، توجه المبعوث الأممي إلى عمان ليلتقي هناك السعدي. وطبقا لبيان صادر عن مكتب السعدي فإن كوبلر أوضح أنه لم يبق شيء خاف في العراق، وأصبح الواقع هو الذي يعبر عن حالة العراق.
في العراق وعلى طريقة كارل ماركس فإن التاريخ يعيد نفسه مرتين.. مرة على شكل مأساة ومرة على شكل ملهاة. وفي كلتا الدورتين تداخلت المأساة والملهاة معا.. فتاريخ هذا البلد صنعته في غضون قرن واحد قوتان خارجيتان وكلتاهما عظميان كان لكل واحدة منهما صدام مع طبقة من رجال الدين ووئام بشكل ما مع الطبقة الأخرى من المذهب الآخر.. فقد ظل كل من الدين والعشيرة أداة بيد الدولة بينما غابت كل نسب المشاركة من قبل القوى والأحزاب والتيارات الليبرالية وغيرها فضلا عن المجتمع المدني الذي تم تغييبه بالكامل.
وفي خلال العقود الثلاثة التي سبقت سقوط بغداد ونظام الحكم والدولة المركزية عام 2003 ظلت المؤسسة الدينية في حال من صراع النفوذ مع الدولة داخل المجتمع العراقي المنقسم على ذاته مذهبيا بين السنة والشيعة حتى تحول الانقسام المذهبي خلال الأعوام 2005 - 2008 إلى صراع طائفي تطور إلى حرب أهلية أصبح فيها القتل على الهوية.
وبينما وضعت الحرب الأهلية أوزارها على مستوى عمليات القتل على الهوية وجمع عشرات الجثث من الشوارع والأزقة الخلفية للمدن يوميا، إلا أن هذا الصراع لا يزال يعبر عن نفسه بطرق ووسائل أخرى في وقت يخشى فيه السياسيون ورجال الدين من أن تفلت الأوضاع ثانية لتعود إلى ما يسمى «المربع الأول».
ولأن المؤسسة الدينية السنية حسبت منذ عام 1921 على السلطة المركزية التي أسهم البريطانيون بإقامتها منذ ذلك التاريخ على الرغم من فتاوى رجال الدين الشيعة المعارضة، فإن رجال الدين الشيعة ومرجعيتهم العليا ومقرها مدينة النجف ظلت مهمشة فضلا عن أنها ليست راضية عما جرى آنذاك على الرغم من أن ثورة العشرين كان لرجال الدين ورجال العشائر في منطقة الفرات الأوسط دور فاعل فيها.
في هذه الأزمة برز رجل الدين السني العلامة الشيخ عبد الملك السعدي 75 عاما كبصيص ضوء في أخر النفق, فمع أنه من رجال الدين السنة البارزين في العراق إلا أنه لم يعرف عنه الاضطلاع بدور سياسي طوال سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
لكن ثمة فرق بين الأهمية التي يمكن أن يحتلها أي شخص وبين الدور الذي يضطلع به، ولا سيما في مراحل مفصلية من التاريخ. فعلى الرغم من التناقض الحاصل في الأهداف والشعارات والمفاهيم التي رفعها ويرفعها المتظاهرون في المناطق الغربية من العراق، فإنهم اتفقوا بشكل من الأشكال وبعد أن كثر راكبوا موجة المظاهرات والاحتجاجات على الالتفاف خلف راية السعدي كمرجع سني متفق عليه يمكن أن يكون نظير مراجع الشيعة.
ولعل من المفارقات التي تثير الانتباه أن خطاب السعدي المعتدل والمتوازن كان موضع تقدير الحكومة والمعارضة معا.. الحكومة وجدته معتدلا وهو ما جعل رئيس الوزراء نوري المالكي يشيد به في بيان رسمي، في حين رأى فيه معارضو المالكي خطابا وحدويا جامعا على حد قول الناطق الرسمي باسم متظاهري الأنبار الشيخ سعيد محمود اللافي.
يقول سعيد اللافي المتحدث باسم متظاهري الأنبار، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «خطاب الشيخ عبد الملك السعدي كان خطابا موحدا للجميع وقد عبر عن دواخلنا جميعا والتزم مطالبنا العادلة». وأضاف اللافي أن «السعدي كان قد أعطى السياسيين درسا حين تحدث باعتدال وقوة معا». وأشار إلى أن جماعة «السنة بحاجة اليوم إلى خطاب مثل خطاب العلامة السعدي وإلى صوت مثل صوتهم حيث يكفي تهميش وإقصاء، ولا بد من نيل الحقوق ولن يتم ذلك إلا من خلال التوحد».
من جهته، أكد القيادي في ائتلاف دولة القانون عدنان السراج في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «السعدي رجل دين ناضج ومعتدل وكان خطابه داخل ساحة الاعتصام مهما، حيث إنه سحب البساط من تحت كل المحاولات والمساعي الطائفية والمثيرة للفتنة». وأضاف السراج أن «المالكي مهتم بدور العلامة السعدي على الرغم من أنه أصدر بيانا تهجم فيه على رئيس الوزراء، إلا أننا في دولة القانون لم نقف عند هذا الخطاب لأن هناك من يريد أن يصادر دور السعدي بالإضافة إلى أن الرجل لا بد له من الموازنة».
من هو السعدي؟
* ولد العلامة عبد الملك عبد الرحمن السعدي في مدينة هيت (قضاء تابع لمحافظة الأنبار) غرب العراق عام 1937. سليل عائلة دينية، فجده أسعد كان عالما مشهودا له في علمه من بين أقرانه الذين عاصروه. ذهب مقاتلا في الحرب العالمية الأولى وفقد ولم يعد. وترك ابنه عبد الرحمن والد عبد الملك في سن الثانية عشرة من عمره.
وينتمي السعدي إلى عشيرة «البوعباس» وتسكن عائلته تلك المنطقة منذ بداية القرن الثاني عشر الهجري تقريبا. وتنتسب إلى «السعدية» أو خان بني سعد في ديالى.
تخرج السعدي عام 1970 من كلية الإمام الأعظم للدراسات الإسلامية في بغداد. وفي عام 1971 التحق بقسم الدين في كلية الآداب في جامعة بغداد لإكمال مرحلة الماجستير، وقد حصل على هذه الدرجة في الفقه المقارن عام 1974. ثم التحق بجامعة أم القرى في مكة المكرمة لنيل درجة الدكتوراه، وحصل عليها بتقدير امتياز في الشريعة الإسلامية.
وللسعدي مؤلفات وأبحاث كثيرة في مختلف شؤون الدين، من بينها «العلاقات الجنسية غير الشرعية وعقوبتها في الشريعة والقانون»، من جزأين، وكتابه «تحقيق ميزان الأصول في نتائج العقول في أصول الفقه من جزأين - تحقيق وتعليق»، وكذا «الفوائد والدرر في بعض ما يحتاجه أهل البادية والحضر»، و«منهجك في الحج والعمرة»، و«شرح النسفية في العقيدة الإسلامية».
كما ساهم في التدريس ولا يزال في عدد من الجامعات آخرها جامعة العلوم الإسلامية في عمان بالأردن. انتخب لمنصب مفتي الديار العراقية عام 2007 بعد وفاة المفتي عبد الكريم بيارة المدرس إلا أنه اعتذر عن عدم قبول المنصب. برز دوره خلال السنوات الأخيرة كواحد من أهم عناصر الاعتدال.
ينبوع الغضب
* الاحتقان الذي مر عليه عشر سنوات من الشعور بالحرمان والتهميش والإقصاء فجر فجأة ينبوع غضب عارم في الشارع السني جعل التاريخ يعيد نفسه بالمقلوب، حيث بدا أن هناك «مظلومية سنية» بدأت تطرق الأبواب على غرار «المظلومية الشيعية» التي بقيت تطرق الأبواب 80 عاما. الهتافات والشعارات هي ذاتها لكن بالمقلوب، والخصم والحكم هو الحاكم السني بالأمس والشيعي اليوم. في هذه اللحظة الفارقة لا بد من دور لرجل الدين في هذا الزمن الصعب.
وفي هذا التوقيت الحاسم دخل الشيخ عبد الملك السعدي ساحة الاعتصام عائدا على عجل من مقر إقامته في عمان. ومن كل الجهات كانت الأنظار تتجه إليه. وكان لا بد له أن يقول كلمته التي استمع إليها المتظاهرون والحاكمون والمحكومون معا. بدا المشهد مقلوبا والصورة معكوسة. أعاد الشيخ الطاعن في الحكمة الطمأنينة إلى المشهد وأعاد وضع الصورة في مكانها الصحيح. نجح في تقديم قراءة صحيحة للمشهد الملتبس. ومضى إلى منزله المتواضع في مدينة الرمادي في وقت بدأت فيه الحلول وإن كانت جزئية تؤتي أكلها في وقت أعلن فيه الجميع تأييدهم لخطابه الأكثر اعتدالا بين كل خطابات رجال الدين طوال السنوات العشر المنصرمة.
لم يعرف عنه ممارسة دور سياسي خلال سنوات ما بعد الاحتلال عام 2003. وبسبب الفراغ الذي باتت تعانيه الطائفة السنية في العراق على خلاف نظيرتها الشيعية حيث تستطيع المرجعية الشيعية المنظمة توحيد الصف الشيعي في الأزمات، فإن الأزمة الراهنة أظهرت حجم الفراغ الذي يعانيه السنة في العراق، ولا سيما بعد أن بات ينظر إليهم على أنهم «أقلية» سنية في مقابل «أكثرية» شيعية.
ولعل من بين أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الاختلال في المفاهيم والتوازنات في بلد مثل العراق فقد بوصلة الهوية وهو أخطر ما يمكن أن يتعرض له بلد في التاريخ.. أنه بعد عام 2003 اختلط الدين بالسياسة في العراق بشكل لا نظير له. الأحزاب الدينية التي ترفع صور رجال الدين تتنافس مع الأحزاب العلمانية بمن فيها الحزب الشيوعي على مقاعد البرلمان. ومثلما برز رجال سياسة من مختلف الطوائف والمذاهب برز إلى جانبهم رجال دين من مختلف الطوائف والمذاهب أيضا.
من بين رجال الدين من خاض صراعا مع الطبقة السياسية لأسباب تتصل بالكيفية التي يكون عليها موقع رجل الدين ورجل السياسة في معادلة باتت هي الأصعب في دولة ما زالت تبحث عن هويتها الأم وسط تزاحم الهويات الفرعية مثلما أشرنا. ومن بين رجال الدين من انهمك في العملية السياسية نائبا في البرلمان (عدد كبير من أعضاء البرلمان العراقي من المعممين) أو مرشدا روحيا لحزب (آية الله محمد اليعقوبي - مرشد حزب الفضيلة) أو زعيما لتيار (مقتدى الصدر - التيار الصدري) أو رئيسا لاتجاه «عمار الحكيم - المجلس الأعلى الإسلامي». ومنهم من ربط بين اشتغاله بالسياسة رافعا شعار «دولة القانون» وزعامة حزب ديني (نوري المالكي - رئيس الوزراء وأمين عام حزب الدعوة)، ومنهم من انسلخ من منظومته الحزبية ليشكل تيارا جديدا يجمع بين شعارات الدين ورغبات السياسة (إبراهيم الجعفري - انشق عن «الدعوة» ليؤسس تيار الإصلاح الوطني).
وإذا كان كل ذلك في الجبهة الشيعية حيث لا يجرؤ أحد من هذه الأحزاب أو الكتل أو التيارات على الخروج على طاعة المرجع الأعلى مثلما يفتخر الجميع بأنهم جميعا يختبئون تحت عباءة المرجعية الدينية العليا ممثلة بالمرجع الأعلى (المرجع الأعلى الحالي علي السيستاني).. نقول إذا كان ذلك في الجبهة الشيعية، فإن الأمر في الجبهة السنية بدا مختلفا إلى حد كبير.. فبعد عام 2003 تراجع إلى حد بعيد دور رجال الدين السنة لأسباب كثيرة لعل في المقدمة منها المعادلة المقلوبة بين عراقيين تم تصميمها خلال قرن من قبل قوتين عظميين عالميتين.. عراق صنعته بريطانيا عام 1921 كان للمؤسسة الدينية السنية دور بارز فيه، بينما انسحبت المرجعية الدينية الشيعية بل حتى أفتت بعدم التعامل معه لأسباب تتعلق بالموقف من المحتل. وعراق صنعته أميركا بعد عام 2003 كان للمؤسسة الدينية الشيعية دور بارز في تحديد أهم ملامحه في وقت تراجع إلى الخلف دور المؤسسة السنية العراقية التي أفتى منها من أفتى بحرمة التعامل مع المحتل. وفي المسار نفسه فإنه مثلما انهمك الحزب الإسلامي العراقي (أكبر الأحزاب الإسلامية السنية في العراق، توالى على زعامته بعد الاحتلال محسن عبد الحميد وطارق الهاشمي الذي انسحب منه وإياد السامرائي) في العملية السياسية منذ تأسيسها بعد سقوط النظام العراقي السابق، فقد انهمكت قوى سنية أخرى في مشروع المقاومة (هيئة علماء المسلمين وزعيمها الشيخ حارث الضاري). في حين وجد آخرون متنفسا لهم في الخارج لتقديم النصح والإرشاد (الدكتور أحمد الكبيسي).
العلامة الشيخ عبد الملك السعدي هو وحده من كان وجوده علامة فارقة في كل ما جرى وما قد يجري في قادم الأيام في العراق حيث يواجه الآن أخطر السيناريوهات من الحرب الأهلية إلى التقسيم المفرط على شكل دول أو دويلات طائفية أو تقسيم بموجب الدستور العراقي على شكل أقاليم فيدرالية. السعدي اكتفى خلال السنوات الماضية بدور الإرشاد والإفتاء والتوجيه مع الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. لم يدخل طرفا ضد طرف ولم يتبن اتجاها مقابل اتجاه.. تلك المسافة التي ظهر أثرها واضحا مؤخرا عندما وحدت كلمته ليس صفوف المتظاهرين في الأنبار فحسب بل دعمت مواقف الجميع بمن في ذلك الحكومة ورجال الدين لكي تعيد صياغة خطاب متعقل ومقبول في زمن كثر فيه المتصيدون في الماء العكر.