من سرق الكحل من عيني فاطمة؟
ديب علي حسن
سرقوا الكحل من عيني فاطمة، أقالوا خالد الفتح من عنفوانه وخطفوا سيف علي، وشوهوا عدالة الفاروق، ولطخوا وصايا الصديق، وأهرقوا كرامات الإسلام والمسلمين...
لم يتركوا موبقة إلا وصنعوها وارتكبوها سرقوا الماضي والحاضر واغتالوا المستقبل.
وطني أيها المفجوع ببعض أبنائك وبمعظم أشقائك، ومن كنت لهم الأمن والأمان.. وطني أيها المطعون بخنجر سلّه من مددت له يد العون، من بلسمت جراحه، من أطعمته وكسيته وآويته...
أيها الوطن أنت المصلوب أنت المطعون والمجروح ولكن كبرياءك أسمى وأعلى وأنقى.
منذ عامين قصدنا درعا لواجب تعزية كان يوم خميس وكنت عقدت العزم على السفر إلى حمص صباح يوم الجمعة... في درعا أصر المضيفون وهم أهل الكرم أن نلتقي على مائدة غداء حول بحيرة مزيريب.. خمسون شخصاً وأكثر.. كنا من أطياف الوطن كافة، الأطياف كافة نعم.. جلسة بدأت في الثانية ظهراً واستمرت حتى السادسة زملاء بعضهم اختار أن يملأ الكأس (كولا) وآخرون اختاروا أن تكون البيرة الباردة رفيقتهم وآخرون.. حوار وحوار يقترب الزميل المضيف بلباقته يتحدث مع الجميع.. ويسألني عن بعض الأمور ومن باب المزاح يقول: العام الماضي كنت أؤدي فريضة الحج وقد دعوت ودعوت وماذا دعوت.. ؟! أن يغفر لي إن شربت كل شهرين كأس بيرة والعام القادم سأقوم بالواجب نفسه ولمَ يا أخ العرب؟ لأدعو الله أن تنشروا لي كل شهر مادة... ويضحك الجميع... تعود مساء وفي الطريق لا تدري من الذي يريد أن يقدم لك (راحة درعا) ويمر اليوم والجمعة كأن الأمس لم يكن، وكأن لمة الأطياف أريد لها أن تكون مجرد ذكرى.
هذا الوطن المجبول بالعطر والنقاء بالكبرياء أرادوا له الشر ولم يكن ذلك بين ليلة وضحاها، سنوات وسنوات يعملون نمنا حيناً واستيقظنا أحياناً.. ثعالب غافلتنا خاتلتنا، راوغتنا، فاغتالت البسمة والأمل والفرح وأضرموا النار في حقول كرامتنا وقمحنا لوثوا طهر الندى في تلالنا، سرقوا مصحف خبزنا.
أيها الوطن بين عامين ما الذي جرى وكيف جرى؟
أيها السوريون ما الذي جعلنا نحلم بربطة خبز ونحن الذين أطعمنا ثلاث دول، وسقينا العطاش تكرماً..
أيها الوطن بالأمس رأيت ما لم أكن أظن أنه يحدث على أرض وطني.. الساعة الثالثة ليلاً وأطفأت أضواء مكتبي ونمت على أمل اليقظة في السادسة صباحاً لعلني آخذ ربطة خبز.. أذهب في السادسة والربع إلى المخبز المجاور أكثر من خمس مئة في طوابير تقطع الشارع.. أعود إلى نافذة بيع خبز أصلها بعد دقيقة لقربها من المكان.. أكثر من مئة شخص ينتظرون أنضم إليها ونسمات الهواء البارد تلفح الجميع يزداد العدد يصل إلى المئات... بالقرب مني رجل عجوز يضحك مع جليسه ويدعو بين الفينة والأخرى (الله يجازي من كان السبب.. الله يفرج) بعد ساعة والربع من الانتظار كما غيري أحصل على ربطة خبز أذهب إلى منزلي لأعود في التاسعة إلى العمل في الثالثة ظهراً.. أطفال على الأوتستراد يحملون ربطات خبز اشتري واحدة على أنها اثنتان - لا للطمع بل لأننا بحاجة ربطتين- أدفع ثمنها سبعين ليرة.. نعم سبعون ليرة.. لابأس في البيت افاجأ أنها..
ترى من الذي حولنا إلى طوابير تنتظر رغيف خبر؟
من الذي جعل أطفالنا تجار أزمات.. من الذي دفع سائق (السرفيس) ليتقاضى ثمانين ليرة بدلاً من خمس عشرة ليرة أجرة الطريق؟!
من الذي جعلني أرتاب بكل واقف على الطريق يشير إليّ أن أتوقف.
أصدقكم القول كنت وحتى منتصف العام الماضي أعود في الثالثة ليلاً من عملي وعلى الطريق المقطوع أكثر من مرة أتوقف لمن يشير لي.. لم أشعر لحظة ما أني أضع نفسي في دائرة الخطر أبداً، لم أشك ولو للحظة أني سأكون طعماً لقاطع طريق أو سارق أو... ولم يحدث أن خاب ظني.. ترى من الذي يجعلنا حبيسي أربعة جدران بعد عودتنا إلى منازلنا..
من الذي جعلنا نشكو عقوق الأخوة والأهل والأقرباء هل كنا ننام في العسل؟!
لا.. لا.. ليس النوم في العسل كان الوفاء، كان الوعد والعهد... وما أراه ونراه اليوم ليس إلا أمراً طارئاً، عابراً، قد يدوم فترة من الزمن لكنه ليس من قيمنا، ولا شيمنا، لابد أن الأصيل سينصهر ليزداد ألقاً، أرى ذلك في عيني جندي يقف ليل نهار حارساً راحتنا وأمننا، يبتسم حين يرانا، يعاملنا وكأننا نحن من يحرسه.. أرى ذلك بهمة عمال النظافة صباحاً وهم يقبلون على عملهم بكل إخلاص.. أراهم أكثر ثقافة ونقاء من الذين تاجروا بالوطن وباعوه بأرخص الأثمان وهم يدعون أنهم مفكرون.. السارقون بسمتنا وأمننا وفرحنا وأملنا وقمحنا.. أنتم من حرق مصحف قمحنا وسيف علي وعدالة عمر ووصية الصديق أنتم من تاجر بقميص عثمان ومظلمته.
الغد القادم أراه ببسمة أطفال يكبرون ينمون زنابق وعد وعطر أراه بمريم التي انتظرتها وجاءت مع أتراب لها.. الغد لهم: خالد وعلي ومريم وريمة وعيسى ومحمود وحسن أطفال الوطن أينما كانوا، وطن لا يساوم ولا يهادن لن ينكسر قد توجعه المحن لكن النار تطهره، تصهره، تعيد السبك..
أيها الوطن من سرق سيف علي لن يقوى على الضرب به، ومن خطف عدالة عمر غير قادر على الوصول إلى عتباته.. والأصالة نعيشها، لا ندعيها، لا نتاجر بها.. الوطن أيها المفجوع بمن أكرمتهم لا تحزن، لاتحزن... كثبان رمال تذروها الرياح إلى ربعهم الخالي..