الاستشراق في أزمة نص مقال الاستشراق في أزمة , الاستشراق في أزمة أنور عبد الملك , مقال الاستشراق في أزمة المنشور فى مجلة La Sociale Dailiqtique نص مقال الاستشراق في أزمة , الاستشراق في أزمة أنور عبد الملك , مقال الاستشراق في أزمة المنشور فى مجلة La Sociale Dailiqtique نص مقال الاستشراق في أزمة , الاستشراق في أزمة أنور عبد الملك , مقال الاستشراق في أزمة المنشور فى مجلة La Sociale Dailiqtique
لقد أطلق هذه العبارة أنور عبد الملك في مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة " نشرها في مجلة الجدلية الاجتماعية La Sociale Dailiqtique باريس عام1971م. وأعيد نشرها في مجلة الفكر العربي المعاصر) (عدد 32في) تناول فيها نقد الاستشراق من حيث مسلماته ومناهجه وأدواته، وأكد على ضرورة نقد الاستشراق لاسيما وان الدول التي كانت خاضعة للاستعمار أصبحت دولاً ذات سيادة " أصبحوا "ذواتاً" أسياداً"([1]).
وختم عبد الملك مقالته بعدد من التوصيات حول إعداد الباحث الغربي في الدراسات الاستشراقية من حيث معرفة اللغة والتمكن من المعارف المختلفة الخاصة بالعالم العربي الإسلامي. وكان مما قاله :" لقد حان الوقت لاعتماد توجه جديد بالضرورة ، ويرى المرء من الناحية الموضوعية أن مختلف قطاعات الاستشراق المعاصر في السنوات الأخيرة قد بدأت تعي هذه الضـرورة. "([2])
أما الدكتور محمد خليفة فقد تناول أزمة الاستشراق بمذكراته التي أثبت هنا نصها مع بعض الإضافات التي أشير إليها في حينه:
تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى عدد من الأسباب التي يعود معظمها إلى فترات تاريخية مختلفة منها أسباب واكبت الاستشراق منذ بدايته واستمرت معه حتى العصر الحديث، ومن بينها أسباب تعود إلى التاريخ الحديث والمعاصر. وقد أثرت هذه الأسباب على طبيعة الاستراق وأدت إلى نوع من الغموض في ماهية الاستشراق وطبيعته وفي شخصية المستشرقين عبر العصور وولدت هـذه الأسباب مجموعة من الأزمات المتداخلة فيما بينها أزمة الهوية وهي تختص بغموض الاستشراق وعدم القدرة على تحديد طبيعته هل هو علم أو حركة فكرية أو مذهب أو غير ذلك.
وولدت أزمة منهجية من حيث أن الاستشراق ليس له منهج واضح يمكن مقارنته بالمناهج العلمية التي طورتها العلوم المختلفة نظرية أو تجريبية أو اجتماعية أو إنسانية الأمر هذا فظلاً عن الأزمة الأخلاقية التي نتجت عن الارتباطات السياسية والدينية للاستشراق الأمر الذي أدى إلى استغلال المعرفة الاستشراقية بواسطة القوى السياسية الاستعمارية والقوى الدينية التنصيرية والصهيونية وأخيراً هناك الأزمة التي أوجدها الاستشراق في العلاقة بين الشرق والغرب وبخاصة العلاقة بين المسلمين والغرب وما تولد عن هذه الأزمة في العلاقات من صراع ديني حضاري بين الإسلام من ناحية وديانات الغرب من ناحية أخرى .
وهذه الأزمة لها أسبابها ومظاهرها ولها أيضاً نتائجها وآثارها.
أولاً : أسباب الأزمة وهي :
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية.
2- تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب.
3- غياب المنهج في الاستشراق .
4- الصحوة الإسلامية ومواجهة الاستشراق والتنصير.
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية :
من المعروف تاريخيا أن الاستشراق ارتبط منذ بدايته بقوى مختلفة من أهمها القوى السياسية التي رأت في الإسلام والمسلمين عدواً للغرب وللنصرانية ولليهودية منذ ظهور الإسلام وانتشاره في بلاد كانت نصرانية الأصل، بل تمثل قلب العالم النصراني مثل منطقة الشرق الأدنى القديم وبخاصة فلسطين التي يعدها النصارى واليهود أرضاً مقدسة شهدت مولد الديانتين اليهودية والنصرانية. وشهدت أيضاً ظهور أنبياء بني إسرائيل ومن بينهم عيسى عليه السلام وبها الآثار الدينية والتاريخية المقدسة في هاتين الديانتين.
كما انتشر الإسلام فيما بعد في بلاد نصرانية خارج حدود الشرق الأدنى القديم في أوروبا وأفريقيا حيث حل الإسلام محل النصرانية في البلاد التي كانت خاضعة للدولة البيزنطية، ثم تمكن المسلمون من فتح الأندلس وجزر البحر المتوسط كما توغلت الفتوحات العثمانية في قلب القارة الأوروبية. وقد أدى هذا السقوط لمعظم بلاد النصرانية في يد المسلمين إلى اعتبار الإسلام والمسلمين العدو الأول للغرب، وبدأت استعدادات الغرب لاسترجاع الأرض النصرانية والهجوم على الإسلام في الوقت نفسه، فقام الغرب بحملاته الصليبية لاسترداد بيت المقدس وكل الأراضي النصرانية السابقة (بزعمه) كما استعد الغرب فكرياً ودينياً لمواجهة الإسلام بتشجيع الاستشراق وحض المستشرقين على الحصول على المعرفة الإسلامية وترجمة معاني القران الكريم والاستعداد لتكوين جبهة فكرية دينية لمهاجمة الإسلام.
وبعد فشل الحروب الصليبية استمر الهجوم الفكري الديني إلى مرحلة الاستعمار الحديث الذي جمع من جديد بين الهجوم العسكري والهجوم الفكري وهو الوضع الذي استمر إلى التاريخ المعاصر حيث انتهى الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين واستمر الهجوم الديني والفكري .
وواضح من هذا العرض التاريخي السريع أن علاقة العرب بالإسلام والمسلمين مبنية على أساس من العداوة والكراهية واستخدام كل الوسائل الممكنة لمواجهة الإسلام والمسلمين. وخلال هذا الصراع الطويل أصبح الاستشراق علماً تابعاً للقوى الغربية السياسية والدينية ولم ينفصل عنها سوى في خلال مراحل انحسار المد الاستعماري أو فشل الجهود العسكرية، ولذلك فالمواجهة الفكرية والدينية أطول عمراً واستمرارية من المواجهة العسكرية. ولم يشعر المستشرقون بحرج من علاقاتهم بالقوى السياسية والدينية في بلادهم وفي الغرب بعامة فالإسلام عدو الجميع سواءً كانوا سياسيين أم مفكرين أم سياسيين . فالمستشرق مواطن ينتمي إلى بلده ويشعر بأنه يؤدي واجبه ويعمل على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن كون معرفته أو علمه مستغلاً من جانب القوى السياسية والدينية. فهو مواطن لا يمكن عزله عن بلده ومصالحه ولم يشعر المستشرق بحرج من هذه العلاقة خاصة في الفترات الاستعمارية الطويلة مثل فترة الحروب الصليبية التي زادت عن قرنين وفترة الاستعمار الحديث التي غطت ثلاثة قرون تقريباً ".
وأود أن أضيف إلى هذا الارتباط بعض الحقائق التي أصبحت معروفة عن ارتباط الاستشراق أو الدراسات العربية الإسلامية بالدول الغربية التي من أهدافها استمرار الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي في المجالات المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأبدأ ببريطانيا فهي التي احتلت أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي فقد اقترح أحد أعضاء البرلمان البريطاني عام 1916م إنشاء معهد للدراسات العربية والإسلامية في بريطانيا. فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية عام 1947م برئاسة الايرل سكاربرو لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية، وتقديم المقترحات اللازمة لاستمرار هذه الدراسات وتطويرها. وقد أعدت اللجنة تقريراً مؤلفاً من حوالي مائتي صفحة عدّه الدكتور خليق نظامي دستور الاستشراق الحديث. حيث أوضحت استمرار حاجة بريطانيا لمعرفة الشعوب العربية الإسلامية والحاجة إلى متخصصين في هذا المجال.
وقامت الحكومة البريطانية بتأليف لجنة أخرى عام 1961م برئاسة السير وليام هايتر لدراسة أوضاع الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وقامت اللجنة بتمويل من مؤسسة روكفللر بزيارة عدد من الجامعات الأمريكية والكندية للإفادة من التجربة الأمريكية والكندية في هذا المجال. وأصدرت تقريراً ضخماً ضمنته توصيات كثيرة منها ضرورة استمرار هذه الدراسات وتخصيص ميزانيات لدعم هذه الدراسات، واقتراح إنشاء أقسام علمية جديدة.
أما في الولايات المتحدة فإنها بعد الحرب العالمية الثانية وجدت أنها يجب أن تحل محل النفوذ البريطاني ولمّا لم تجد العدد الكافي من المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية فقد عرضت على عدد من كبار المستشرقين الأوروبيين العمل في الجامعات الأمريكية ومن هؤلاء على سبيل المثال هاملتون جيب الذي أسس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ، ونال جيب مكانة رفيعة في هذه الجامعة. كما استقدمت جوستاف فون جرونباوم بجامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، وبرنارد لويس الذي عمل عدد من السنوات أستاذاً زائراً حتى انتقل كلياً إلى جامعة برنستون عام 1974.
وأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوماً بتوفير مبالغ ضخمة لدعم مراكز دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات الأمريكية ( أربع وعشرين جامعة ) من بينها جامعة برنستون وجامعة نيويورك وجامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس وفي بيركلي وجامعة انديانا في بلومنجتون وغيرها. وما تزال هذه الجامعات منذ الخمسينيات وحتى هذا العام 1997 تتلقى الدعم الحكومي الأمريكي. ولم يقتصر الدعم الحكومي الأمريكي على هذه الجامعات فهناك معاهد ومراكز بحوث كثيرة تتلقى الدعم المباشر من الحكومة الأمريكية. وبالتالي فان الغالبية العظمى من الباحثين (المستشرقين) يعملون لدى الحكومة الأمريكية.([3])
وفي عام 1985 عقدت لجنة الشؤون الخارجية جلسات استماع لعدد كبير من الباحثين في مجال الدراسات العربية الإسلامية ونشرت محاضر الجلسات في كتاب بلغت عدد صفحاته أكثر من أربعمائة صفحة وشارك فيه عشرات الباحثين المتخصصين في هذا المجال. ( وقد قامت مجلة المجتمع الكويتية بنشر معظم هذا التقرير في أربع وخمسين حلقة.قبل احتلال العراق الكويت)([4])
وقد كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تمتنع ظاهراً الإفصاح عن صلتها بهذه الدراسات حتى إنها عندما اكتشف صلتها بمؤتمر علمي بجامعة هارفارد قبل عدة سنوات قام ناداف سافران الأستاذ بجامعة هارفارد والمسؤول عن تنظيم المؤتمر بتقديم استقالته وتم إلغاء المؤتمر. ولكن الأمر تغير مع ازدياد نفوذ الجماعات الإسلامية في الدول العربية الإسلامية فأصبحت هذه الوكالة تتبنى عقد ندوة شهرية للمتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية (وبخاصة الأصولية) لمساعدة الحكومة الأمريكية في التعامل مع هذه الظاهرة.
وأود أن أضيف أيضاً إلى مسألة ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بنزعة الغرب إلى الهيمنة والسيطرة (الاستعمار سابقا) أن ما تقوم به المؤسسات غير الحكومية (ذات الهدف غير التجاري) مثل مؤسسة روكفللر ومؤسسة فورد ومؤسسة كارينجي في تمويل الدراسات العربية الإسلامية يعد تأكيداً للنزعة التي ذكرنا سابقاً. وقد انضمت بعض الدول العربية الإسلامي إلى دعم هذه الدراسات بهدف تحقيق أهداف معينة ففي نشرة مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط التابع لجامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) نجد أسماء مكاتب المعلومات التابع لعدة دول عربية وهذه المكاتب إنما هي فروع لاستخبارات تلك الدول. ويكفي المرء الرجوع إلى مقدمات بعض الكتب الاستشراقية ليجد الدعم السخي الذي يتلقاه هؤلاء الباحثون من هذه المؤسسات. ومن الأمثلة القريبة جداً قيام باحث من مؤسسة راند بكاليفورنيا-هو جوزيف كيششيان- بإعداد دراسة عن الأوضاع الأمنية في المملكة العربية السعودية . والمرء يتساءل وما علاقة هذه المؤسسة بمثل هذه الموضوعات؟ كما أن هذا الباحث وجد دعماً من وكالة استعلامات الولايات المتحدة في المملكة ليجتمع مع عدد من أساتذة الجامعات والباحثين والمثقفين السعوديين في رحابها.([5])
أما ارتباط الاستشراق بالتنصير فان المعاهد اللاهوتية والتنصيرية ما تزال تقوم بجهود كبيرة في القيام بنشر البحوث والدراسات حول العالم الإسلامي. ويمكن أن نشير إلى مؤتمر كولورادو التنصيري الذي ضم مئات المنصرين من كل أنحاء الولايات المتحدة ونشرت بحوثه في أكثر من ألف صفحة يتناول أدق التفاصيل عن الأوضاع الاعتقادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعالم الإسلامي. ويمكن أن نضيف بان الجامعات الأمريكية التي تتبنّى العلمانية تسمح للمنصرين الدراسة في أقسام الدراسات العربية والإسلامية فمن ذلك أن هـ. كونوي زيجلر قد أعد رسالته للماجستير حول التنصير في الخليج العربي من عام 1889حتى 1973م في جامعة برنستون، ولم يعدها في كلية لاهوتية.
والارتباط بالصهيونية أمر قد لا يكون واضحاً بسهولة ولكن المتمعن في العلاقات بين دولة يهود والجامعات الأمريكية ومراكز البحوث يجد أن هناك تعاوناً وثيقاً بالإضافة إلى العدد الكبير من الباحثين الأمريكيين الذين لا يفصحون عن انتمائهم اليهودي الصهيوني. كما أن مراكز بحوث ومعاهد الشرق الأوسط في الجامعات اليهودية في إسرائيل دائمة الاتصال بالجامعات الأمريكية. وقد اطلعت على نشرة مركز موشيه ديان لدراسة الشرق الأوسط وأفريقيا فوجدت أن هذا المركز يبعث بالعديد من باحثيه للاتصال بالجامعات الأمريكية وكذلك الاتصال بوزارات الخارجية ومراكز صناعة القرار السياسي الغربي. فهل نفطن نحن في العالم الإسلامي إلى أهمية مثل هذه الاتصالات لتعريف العالم بوجهات نظرنا؟
2- تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية وأثره في تعميق الأزمة:
ازدادت ظاهرة غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية حدة في القرنين الأخيرين مع تطور العلوم الاجتماعية والإسلامية واعتمادها على مناهج علمية واضحة في دراسة الجوانب الاجتماعية والإنسانية. ومن المعروف أن نشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية تعود إلى عصر النهضة الأوروبية وفيما بعد عصر التنوير الأوروبي الذي قامت فلسفته الفكرية على أسس عقلية نقدية تحليلية معتمدة -اعتماداً كلياً- على العلم الحديث الذي تطور منذ عصر النهضة. وتم إخضاع الآداب والفنون ونصوص الكتاب المقدس (في اليهودية والنصرانية) للتحليل العقلي والنقد القائم على أساس من البحث التاريخي النقدي والقائم -أيضاً- على أساس نقد النصوص. وقد تمت هذه العملية في حرية تامة في زمن انفصل فيه الدين عن العلم في الغرب، وأصبح العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، وتم إخضاع المعرفة الدينية لسلطة العقل. وخضعت الدراسات الإنسانية والاجتماعية للمناهج العقلية نفسها، وبدأت في التطور مجموعة جديدة من العلوم التي عرفت فيما بعد باسم العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ورغم البدايات القديمة لهذه العلوم، فإنها لم تأخذ شكل العلم إلاّ في القرون الثلاثة الأخيرة حيث أصبحت علماً مميزة بمنهج ومحتوى معروفين، ومالت إلى التخصصية بل تشعبت أيضاً- فيما بعد- إلى علوم متفرعة عن أصل علمي واحد. فمثلاً: تشعب علم الاجتماع إلى عدة علوم اجتماعية :
أ- علم الاجتماع النفسي،
ب-علم الاجتماع الحضري
جـ- علم الاجتماع الريفي
د-علم الاجتماع الديني
هـ- علم الاجتماع الصناعي. واستقل علم الإنسان عن هذا العلم وتشعب بدوره إلى علوم عدة مثل: علم الانثروبلوجيا الثقافية، والدينية وعلم الأجناس .. وهكذا بالنسبة لبقية العلوم الاجتماعية التي تشتمل على ما سبق من المسميات، والعلوم الإنسانية المشتملة على علم التاريخ، والأدب واللغة، والفنون، والدين.
وقد وضع تطور هذه العلوم ذات المحتوى والمنهج الواضحين الاستشراق في أزمة منهجية، وسبق القول ذكر غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية، وقد كان ذلك مقبولاً في الماضي لان معظم العلوم لم يكن لها مناهج واضحة. كما أن العلاقات بين العوم المختلفة لم تكن قد حسمت بشكل يدع كل علم مستقلاً عن الآخر محتوى ومنهجاً.
والخاصية الأساسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ميلها الواضح إلى التخصص وهو ما يفتقد إليه الاستشراق الذي اتسم بالموسوعية والشمولية المعرفية. وبهذا وجد المستشرق نفسه مضطراً إلى تحديد موقفه العلمي من هذه العلوم ذات التخصص الواضح والمنهج المبين . وقد طرح هذا السؤال لان الاستشراق يعالج كل الموضوعات الإنسانية والاجتماعية المرتبطة بالشرق، وهو يفعل ذلك دون منهج واضح وبعيداً عن التخصصية التي تميزت بها العوالم الأخرى. ومن الأسئلة المطروحة مثلاً: كيف يدرس المستشرق المجتمع المسلم؟ هل يطبق عليه المنهج المستخدم في علم الاجتماع لدراسة المجتمعات.
ولكننا يجب أن نضيف هنا -مع التقدير والاحترام للدكتور خليفة- أن الاستشراق التقليدي الذي كان يهيمن على مجالات الدراسات العربية والإسلامية قد اختفى إلى حد كبير- ونقول ذلك بسبب وجود بعض الباحثين الغربيين المعاصرين الذين يخوضون في كل ما يخص الإسلام والمسلمين- وأصبحت دراسة العالم الإسلامي تتم بالتنسيق بين قسم دراسة الشرق الأدنى أو الأوسط وبين الأقسام المختلفة . بل أصبح دور هذه الأقسام أو المراكز كما يطلق عليها في بعض الجامعات هو دور المنسق بين مختلف التخصصات. وفي جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي تتم دراسة العالم الإسلامي في ثمانية عشر قسماً. وقد لاحظت في جامعة برنستون رسائل علمية للماجستير والدكتوراه تتم بالتنسيق بين قسم الاستشراق وبين قسم الاجتماع أو قسم الأنثروبولوجي أو الاقتصاد وهكذا.
3- غياب المنهج في الاستشراق:
نظراً لان نشأة الاستشراق وتطوره كان رد فعل لظهور الإسلام وانتصاره على اليهودية والنصرانية وانتشاره في المناطق التي كانت تابعة لهاتين الديانتين أصبح الاستشراق يمثل اتجاهاً فكرياً معادياً للإسلام منذ البداية، ولهذا السبب افتقد الاستراق مقومات العلم والمعرفة الموضوعية التي تسعى إلى اكتساب المعرفة ذاتها، ومعرفة الأمور معرفة موضوعية.
وتطور الاستشراق وهو يساير حركة الإسلام كدين في انتشاره ومواكباً للمسلمين في قوتهم وضعفهم وهو يحاول جاهداً أن يضع العراقيل أما انتشار الإسلام ويجابه المسلمين كقوة سياسية ودينية وحضارية وعلى الرغم من تعدد مجالات الاستشراق ووجود مجال علمي محدد سعى فيه بعض المستشرقين إلى المعرفة الإسلامية كموضوع للقراءة والاطلاع والبحث لكن غلب على الاستشراق من موقف العداء والكراهية، وبالتالي لم يتمكن المستشرقون من تكوين رؤية موضوعية عن الإسلام كما لم يتمكنوا من تطوير منهج واضح يدرس الإسلام من خلاله وقد تراكمت المعرفة الاستشراقية عبر القرون وغطت كل مجالات الإسلام وأصبحت تمثل كماً معرفياً ضخماً غير قابل للتصنيف العلمي وغير متحد في منهجيته، وهناك عدة أسباب يمكن ان تفسر غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية :
أ- عدم ظهور الاستشراق منذ البداية كعلم واضح له مجاله المحدود وله منهجيته المحدودة فالاستشراق كما ذكرنا تراث ضخم من المعرفة حول الإسلام تراكمت عبر القرون وأصبح من الصعب إخضاعها للوصف العلمي المنهجي خاصة وان المستشرقين الأوائل لم يهتموا بأمور المنهج قدر اهتمامهم بتشويه المضامين الإسلامية وتحريف الحقائق حول الإسلام ووضع الأساليب والوسائل التي توصل إلى تحقيق هذا الهدف غير العلمي بل إن هناك ما يمكن تسميته بسوء استخدام المنهج والمقصود بهذا إخضاع المنهج لتحقيق أهداف الاستشراق. أو استخدام العناصر المنهجية استخداماً خاطئاً من أجل تحقيق أهداف التشويه.
ب- تغطية الاستشراق كل مجالات الفكر الإسلامي جعل من الصعب تطوير منهج واحد يمكن تطبيقه على كل هذه المجالات، فالدراسات الاستشراقية حول الإسلام تغطي المجالات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية والأدبية والفنية والأخلاقية والفلسفية والعلمية التجريبية مثل مجالات العلوم عند المسلمين كالطب والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك. ومن المعروف أن كل مجال من هذه المجالات يغطي علماً من العلوم أو فناً من الفنون له منهجه الخاص به وقيام المستشرق الواحد بدراسة الإسلام هذه الدراسة الشمولية معناه أن يعمل المستشرق بأكثر من منهج في الوقت الواحد فهو إذا اشتغل بالاقتصاد الإسلامي يستخدم المنهج المناسب لهذا المجال ، وإذا درس المجتمع الإسلامي فهو يستخدم المنهج الاجتماعي وإذا درس الدين والعقيدة الإسلامية فهو يستخدم المنهج الديني (اللاهوتي)، في الفلسفة يستخدم المنهج الفلسفي وهكذا.
4- الصحوة الإسلامية ودورها في تطوير النقد الإسلامي للاستشراق.
تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى سبب إسلامي يضاف إلى الأسباب الأخرى التي نتجت بفعل الأسباب الخارجية التي تخص الاستشراق بصفتها حركة فكرية غربية، فقد أدت الصحوة الإسلامية إلى تطور وعي ديني قوي أدى إلى عودة إسلامية إلى مصادر الدين، وإلى حركة علمية إسلامية ضخمة تناولت جميع جوانب الفكر الإسلامي، كما أدت إلى معرفة إسلامية جيدة بالغرب وحضارته وثقافاته. وقد اصبح المسلمون - بفضل الله ثم بفضل هذه الصحوة- على وعي كامل بالاستشراق بصفته حركة من الحركات التي المناهضة للإسلام فترجمت بعض أعمال المستشرقين إلى اللغة العربية ولغات إسلامية أخرى، وكتبت مؤلفات إسلامية باللغات الأوروبية تقدم الإسلام إلى الغرب بصورة سليمة، ونتج عن هذا حركة إسلامية نقدية لأعمال المستشرقين، وبدأ المسلمون يتعاملون مع الاستشراق تعاملاً علمياً، ينقدون سلبياته ويعترفون بإيجابياته ويشتركون في مؤتمرات المستشرقين، وبدأ ظهور بعض الشخصيات العلمية المسلمة في الجامعات الغربية ومراكز بحوثها وهم بلا شك يسهمون في تغيير الصورة الاستشراقية التقليدية عن الإسلام والمسلمين. ومن أمثال هؤلاء الدكتور إسماعيل راجي فاروقي، والدكتور خالد يحي بلانكنشب، وجاكسون، وسليمان ناينج، وابراهيم العاني، وغيرهم- وان كانوا قلّة.
وقد أحس المستشرقون بهذا النقد الإسلامي لأعمالهم، وعرفوا انهم فقدوا ثقة المسلمين في الاستشراق، في الوقت الذي ازداد المستشرقون اتصالاً بالعالم الإسلامي فحصل بعضهم على الصور الحقيقية لهذا المجتمع، كما كان لبعض الأعمال الإسلامية الناقدة للاستشراق أثر كبير في تعميق أزمة الاستشراق وكشفه أمام أصحابه كقوة فكرية مناصرة للاستعمار والتنصير والصهيونية. ويمكن أن نعود بنقد الاستشراق إلى بداية القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل فقد وردت بعض العبارات في كتابات جمال الدين الأفغاني (تحتفل به إيران هذه الأيام) تشير إلى تأثير أبناء الأمة الذين يقلدون الغرب. كما لابد من ذكر ردود الشيخ محمد عبده على رينان وهناتو وغيرهما من الفلاسفة الفرنسيين. وبعد ذلك عندما برزت الحركات الإسلامية الداعية إلى إخراج المستعمر من العالم الإسلامي نجد انه كان من بين اهتمامات هذه الحركات الرد على المستشرقين وعلى الإعلام الغربي في تعرضه للإسلام. ففي الجزائر مثلاً كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صحفها المختلفة وكذلك مجلة " الشهاب " التي أصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس تهتم بالرد على الاستشراق. ويمكننا أن نجد ردوداً على الاستشراق في صحف الإخوان المسلمين في مصر ، وبعد ذلك في مجلة (الرسالة) المصرية وغيرها من المجلات . ولا بد من الإشارة إلى كتاب الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله (السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فهو من الكتب الرائعة في تفنيد كلام المستشرقين، وكذلك كتابه (المرأة بين الفقه والقانون). كما كان رحمه الله رائداً في القيام بجولات ميدانية لمعاقل الاستشراق والحوار مع المستشرقين.
ومن العرب المسلمين الذين كتبوا باللغة الإنجليزية الدكتور عبد اللطيف الطيباوي الذي نشر مقالتين في مجلة " دراسات إسلامية " التي يصدرها المركز الثقافي الإسلامي بعنوان (نقد المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية) وقام الدكتور قاسم السامرائي بترجمتهما ونشرهما في كتاب عن إدارة النشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ولا بد أن نذكر أن كتابات سيد قطب رحمه الله فيها ردود على الاستشراق، وكذلك كتب الأستاذ محمد قطب ومنها كتابه (شبهات حول الإسلام) و(المذاهب الفكرية المعاصرة) وكتابه (واقعنا المعاصر) وغيرها. وأضيف هنا كتابات الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله ومنها كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) وكتابه (الإسلام والحضارة الغربية) بالإضافة إلى كتابه المهم (الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث) ولم يكتف الدكتور حسين بنقد الاستشراق بل تناول من تأثر بهم من أبناء المسلمين. ومن الذين تناولوا الاستشراق بالنقد الأستاذ محمود شاكر (أبو فهر) في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وهو مقدمة لكتابه عن المتنبي. ولا يمكن أن ننسى الأستاذ الكبير أنور الجندي –رحمه الله تعالى- فله كتابات كثيرة جداً حول نقد الاستشراق وان كان ينقصها التوثيق العلمي الدقيق، لكنها مهمة في تنوير عامة القراء من مخاطر الاستشراق والتنصير فله جهود كبيرة ورائدة في هذا المجال. وأختم بذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فقد كتب الكثير عن مطاعن المستشرقين.
كما كانت هناك أعمال غربية ناقدة للاستشراق ومطالبة لتغيير وجهة الاستشراق وتصحيح صورته عند المسلمين . ومن أهم هذه الكتب : الكتاب الذي حرره ليونارد بايندر Leonard Binder بعنوان: "دراسة الإسلام" الصادر عام 1976م، واشترك فيه عدد من كبار المستشرقين تناول كل منهم مجالاً من الدراسات الاستشراقية ونقده نقداً علمياً وطالبت الدراسة بمراجعة العمل الاستشراقي وتصحيح أخطاء منهجه ونقد الاتجاه التنصيري في دراسة الإسلام، وتقديم مقترحات علمية تخص تصحيح مسيرة الاستشراق.
ومن الأعمال الغربية الأخرى المهمة في نقد الاستشراق وكشف صلته بالاستعمار والتنصير كتاب إدوارد سعيد( الاستشراق). ومن فضائل الصحوة أيضاً أنها نبهت المسلمين إلى الغزو الثقافي الغربي، وإلى عملية تغريب العالم الإسلامي التي يعتبر الاستشراق مسؤولاً عنها. وللصحوة الإسلامية أيضاً دور في مقاومة هذا الغزو وردّ المسلمين إلى أصولهم وتقوية وعيهم بدينهم وحضارتهم وبأفضلية الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية.
ونتيجة لهذه الجهود تم كشف الاستشراق كقوة معادية للدين والحضارة الإسلامية. وقد أفادت هذه الجهود في اعتراف بعض المستشرقين بأخطاء الاستشراق ومحاولة تغيير الاستشراق بل الهروب من هذه التسمية إلى مسميات أخرى إما لتضليل المسلمين أو كاعتراف مباشر بأخطاء المرحلة السابقة من تاريخه والرغبة في دخول مرحلة جديدة يتخلص فيها الاستشراق من سلبيات الماضي.
ويضاف إلى ما سبق التقدم العلمي في مجال دراسات الاستشراق عند المسلمين، فقد بدأت هذه الدراسات تدخل مرحلة جديدة ابتعدت فيها عن العمومية في المعالجة والعاطفة في التعامل مع الاستشراق والمستشرقين، وتطورت نظرة علمية نقدية تحلل الأعمال الاستشراقية وتنقدها وتتعرف على إيجابياتها للإفادة منها، والتعرف على سلبياتها ومن بينها الشبهات المثارة لتفنيدها والرد عليها رداً علمياً مستنداً إلى المصادر الإسلامية الصحيحة وإلى المنهج العلمي السليم وإلى المصادر الاستشراقية ذاتها، وذلك بالعودة إلى آراء المستشرقين المختلفة حول الموضوع الواحد والرد على بعضهم بآراء البعض الآخر، وتوضيح التناقض الاستشراقي.
ومن بين علامات النهضة العلمية في دراسة الاستشراق إدخال مناهج دراسية عن الاستشراق والتنصير في بعض كليات المرحلة الجامعية وبخاصة في كليات الشريعة والدعوة والاهتمام بالرد على آراء المستشرقين في العديد من المناهج الأخرى مثل: مناهج التاريخ واللغة والأدب وغيرها. حيث أصبح المعلمون على وعي كاف بآراء المستشرقين في تخصصاتهم بعد دراستهم لها في مرحلتهم الجامعية أو في دراساتهم العليا فينتقدون آراءهم إجمالاً في المناهج التي يدرّسونها.
أما التقدم الحقيقي في مجال دراسة الاستشراق فيظهر في اهتمام الجامعات الإسلامية بإنشاء مراكز للدراسات الاستشراقية وتنفرد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإنشاء قسم للدراسات الاستشراقية وهو قسم علمي مستقل وهو القسم الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي.([6]) وفي هذا القسم يدرس الاستشراق موزعاً على عدة مجالات علمية، وعلى عدد من المناهج المحددة التي تغطي الدراسات الاستشراقية تغطية كاملة. وفي المراكز التي أنشئت في العالم الإسلامي مراكز بحوث الشرق الأوسط في مصر والأردن ، ومراكز الدراسات الشرقية في مصر، ومراكز البحوث الإسلامية المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية. وبعض المراكز المتخصصة مثل مركز الدراسات العثمانية في القاهرة، ومركز الدراسات الاستشراقية والحضارية بكلية الدعوة بالمدينة المنورة ووحدة بحوث الاستشراق والتنصير التابعة لعمادة البحث العلمي بجامعة الإمام بالرياض. وكل هذا يدل على نهضة إسلامية لمواجهة الاستشراق مواجهة علمية فكرية ودينية حضارية على أسس علمية وبعيداً عن التعميم والعواطف التي أثرت في الكتابات الإسلامية عن الاستشراق في العقود الماضية.
مظاهر الأزمة الاستشراقية:
من أبرز مظاهر الأزمة الاستشراقية ما يأتي:
1- غياب المستشرق التقليدي وظهور الخبير :
بدأت الدوائر الاستشراقية في أوروبا وفي أمريكا - على وجه الخصوص- تهتم بالواقع السياسي و الديني والاقتصادي والاجتماعي للشعوب الشرقية، وقد تم بهذا التحول من الدراسات الاستشراقية التقليدية - أو ما يسمى بالكلاسيكية- إلى دراسة الواقع الشرقي، وبدأ المستشرقون يهجرون المجالات الاستشراقية التقليدية مثل: مجالات القران، والحديث، والعقيدة الإسلامية، والفقه، والسيرة النبوية، والفرق الإسلامية، ومجالات التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ومجالات الأدب واللغة، وبدأوا يتجهون إلى دراسة الأوضاع الاجتماعية للمجتمعات المسلمة من النواحي السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية.([7])
ويشير هذا التحول الخطير إلى ندرة الموضوعات العلمية وغياب المستشرق المهتم بعلوم القران والحديث والفقه والشريعة وحل بدلاً منه الخبير- والكلمة تعني إنساناً غربياً أو غير غربي متخصص فيما يعرف بشؤون الشرق الأوسط- أي بالأمور المالية والأوضاع التي تمر بها شعوب الشرق الأوسط وغيرها من شعوب الشرق.
والكلمة تشير -أيضاً- إلى وظيفة يقوم صاحبها بتوفير المعلومات الحديثة اللازمة للدوائر السياسية والاقتصادية في بلد أوروبي له اهتماماته ومصالحه السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي وبقية بلاد الشرق. وهذا الخبير ليس لديه دراسة علمية بمجالات الاستشراق التقليدية، وتنقصه الخلفية العلمية في موضوعات الاستشراق التقليدية -إلاّ في حدود ما يحتاج إلى تفسيره من ظواهر حديثة أو أمور واقعة بربطه بشي من الماضي لشعوب الشرق. والمعلومات التي يقدمها للدوائر السياسية والاقتصادية معلومات حية بعيدة عن التوجه الاستشراقي أو الرؤية المذهبة الاستشراقية، فخدماته لا تنتمي إلى علوم الاستشراق، ولكنها خدمات في شكل تحليلات سياسية ودينية -أحياناً- تستفيد منها الدوائر المعنية.
2-ظهور مراكز الدراسات الإقليمية:
وقد نتج عن هذا غياب مراكز الاستشراق التقليدية، وظهور ما يسمى بمراكز بحوث الشـرق الأوسط، أو مراكز بحوث ذات طابع إقليمي تهتم بمتابعة الشؤون السياسية والاقتصادية لبلد من بلدان الشرق أو لإقليم منه. فهناك مراكز لبحوث الشرق الأوسط، ومراكز لبحوث الشرق الأقصى، ومراكز مرتبطة ببلد معين مثل: مركز البحوث الإيرانية، أو مركز البحوث اليابانية أو التركية أو الصينية أو معهد الدراسات اليمنية، فهي مراكز متخصصة في بلد واحد، واضطر الغرب إلى غلق معظم المراكز التقليدية. واستبدالها بالمراكز الإقليمية أو القطرية. ووظيفة المركز ككـل هي تقديم الخبرات في مجالات السياسة والاقتصاد للدوائر التي تحتاجها مثل وزارات الخارجية والاقتصاد والمنظمات الإقليمية، أو الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو وغيرها.([8])
ويلاحظ متابعة هذه المراكز وخبرائها للأحداث الجارية، ولذلك تتم الاستعانة بهم في التلفزيون والإذاعة والصحافة، فضلاً عن الدوائر الحكومية في تفسير الوقائع التي تحدث في كل بلد، وتوقعات الخبير بالنسبة لمستقبل الحدث سياسياً أو دينياً.
ويلاحظ أيضاً فقدان مراكز هذه البحوث استقلالها، وذلك بسبب ارتباطها المباشر وتمويل مشروعاتها من قبل جهات حكومية معينة أو شركات اقتصادية كبرى لها مصالح اقتصادية في الشرق.
وعلى الرغم من الارتباط القديم بين الاستشراق والتنصير والاستعمار، فهذا الارتباط كان مرتبطاً بالمصالح الاستعمارية والتنصيرية في بعض الفترات، وهو ارتباط لم يلغ شخصية المستشرق، ولم يقض على توجهه العلمي الخاص به. أما الخبير الحال والمركز الذي يتبعه فهو لا يتمتع بالاستقلالية، ولكنه رغم انحسار الاستعمار يرتبط ارتباطاً مباشراً بالدولة صاحبة المصلحة السياسية والاقتصادية أو الشركة صاحبة المصلحة الأخيرة. ويشبه الخبير هنا بجامع المعلومات ذات الطابع الحديث عن بلد شرقي معين، ليست له (الخبير) أهداف علمية، ولا يسعى إلى تحقيق معرفة ذاتية، أو تحصيل فكر ثابت ولكنه جمع المعلومات ويحللها ويقدمها للجهة الرسمية التي تطلبها.
وتعود نشأة الدراسات الإقليمية وتطورها الكبير في الفترة الحالية إلى توجه استشراقي أمريكي للتركيز على دراسة الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية لبلد واحد أو مجموعة بلدان داخل إقليم واحد، ولذلك أطلق عليها اسم "الدراسات القطرية" إذا درست قطراً و" الدراسات الإقليمية " إذا درست إقليماً كاملاً. وهو توجه أمريكي لان أمريكا ليس لها تراث استشراقي تقليدي كبير، كما أنها-لأسباب داخلية- لم تهتم بالعامل الخارجي إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى حيث بدأ الاهتمام بالعالم. وقد اكتشف الأمريكان النقض الشديد في الكوادر العلمية المتخصصة في تاريخ شعوب الشرق وحضاراتها وجغرافيتها وآدابها ولغاتها وأديانها. صحيح أن بعض الجامعات الأمريكية قد استعانت ببعض المستشرقين المهاجرين إلى أمريكا ضمن حركة الهجرة الأوروبية العامة إلى ما يسمى بالعالم الجديد، وحصل هؤلاء على وظائف تعليمية في الجامعات الأمريكية ، ولكن لقلتهم ونقص تنظيمهم واتساع أمريكا لم يتمكنوا من تكوين ما يمكن تسميته ب "الاستشراق الأمريكي التقليدي" ولذا يمكن وصف الاستشراق الأمريكي بأنه "استشراق معاصر".
3-ضعف التكوين العلمي والأيدلوجي للمستشرق المعاصر.
نشأة المستشرق التقليدي في ظل مذاهب دينية وفكرية قوية مسيطرة على الفكر الغربيمن أهمها :أ- المدرسة اليهودية في الاستشراق ب- المدرسة النصرانية بصفتهما مدرستين دينيتين قويتين ، وأيضاً في ظل عدد من الأيدولوجيات القوية منها العلمانية ، والشيويعية.
وكل مستشرق تقليدي انتمى إلى واحدة من هذه المدارس والمذاهب يحقق لها أهدافها ويعمل من خلال منهجها، وقد تنوعت المدارس الاستشراقية بسبب تنوع المذاهب الفكرية الغربية -رغم الاتفاق في بعض المظاهر- إلاّ أن كل مدرسة تتميز عن الأخرى من خلال الأيديولوجية التي تمثلها.
وبدأ هذا الوضع الاستشراقي القديم في التغير في القرن العشرين ،وبدأ الضعف الأيدولوجي يدب في الاستشراق لأسباب مرتبطة بالفكر الغربي في هذا القرن ، فالمستشرق ابن بيئته الفكرية ويتأثر بما يطرأ عليها من متغيرات مختلفة ومن أهمها:
أ- تدهور الأوضاع الدينية اليهودية والنصرانية.
ب- سيادة العقلانية في الفكر الغربي.
جـ- سيادة العقلانية في الفكر الغربي.
د- انتصار العلمانية
هـ- سقوط الشيوعية.
ز- ظهور المدرسة الإقليمية الأمريكية.
أ-تدهور الأوضاع اليهودية والنصرانية الدينية.
لا يمكن تحديد تاريخ معين لبداية هذا التدهور، ولكن من الممكن اعتبار تفتت اليهودية والنصرانية إلى عدة مذاهب هو العامل الأول في التدهور. فقد انقسمت اليهودية إلى عدة فرق، وكذا النصرانية مما أدى إلى تشتت عملية الدفاع الاستشراقية عن اليهودية والنصرانية، بل توزع المستشرقون أنفسهم إلى عدة مذاهب وأصبح كل منهم يدافع عن مذهبه الديني الخاص ضد الإسلام. فاختلفت حججهم، وتشتت جهودهم وذلك بانعكاس الاختلاف المذهبي على العمل الاستشراقي. ولعل هذا يلاحظ في التنصير كهدف استشراقي نصراني، فكل مستشرق ينصّر حسب مذهبه، ووفق معتقداته الدينية.
ب- سيادة العقلانية في الفكر الغربي:
فمنذ فصل الكنيسة عن الدولة في العصور الوسطى، ودخول الغرب في عصر النهضة ثم في عصر التنوير، أصبحت الحياة الغربية حياة لا علاقة لها بالدين، وتقوم على أساس من العقل المحض الذي طبق على الفكر الديني، وأُخضع الفكر اليهودي والنصراني للنقد العقلي، وأثبت هذا النقد الشغف العقلي للديانتين، وان المعتقدات لا يمكن للعقل تفسيرها فيهما بسبب زيادة الأساطير والخرافات والمتناقضات فيها. كما تم إخضاع الكتاب المقدس( بعهديه) للنقد العقلي، وأثبت علماء نقد الكتاب المقدس عدم إلهية هذه الكتب، وحددوا مصادرها الإنسانية، وفقدت بذلك مكانتها المقدسة واعتبرت من كتب الأدب العالي، بمعنى أنها تمثل أفضل ما استطاع الإنسان إنتاجه، وطبق عليها ما طبق على غيرها من الأعمال الكلاسيكية.
ويعد زيادة العقلانية من الأسباب الرئيسة لتدهور الديانتين في الغرب، وتدهور وضع الكتب المقدسة عندهما.
جـ- انتصار العلمانية
ونتيجة رئيسة لتطبيق المنهج العقلي على الديانتين وكتبهما وإثبات إنسانيتهما وسيطرة الحياة العقلية في الغرب هي أن بدأت العلمانية في الانتشار حيث تخلّى الغرب عن دينه، وأصبحوا بلا دين ملحدين أو علمانيين وان حاولت بعض مذاهب الديانتين التوفيق بين معتقداتها والعلمانية، حيث أنشأت ما يمكن تسميته "علمانية دينية" وقد أثرت العلمانية في المستشرقين تأثيراً كبيراً، فتحول كثير منهم من مستشرقين يهود ونصارى إلى مستشرقين ملحدين وعلمانيين فسقط هدف الدفاع عن اليهودية والنصرانية ليظهر هدف جديد هو نشر الفكر العلماني في الشرق من خلال إبعاد المسلمين عن دينهم من غير إدخالهم في دين آخر. وهناك صعوبة في تحديد المستشرق العلماني، لان هويته غير محددة وبخاصة لاتساع العلمانية وتغطيتها لكل الفكر الغربي اللاديني.
د- ظهور الاستشراق الأمريكي:
وهو استشراق غير تقليدي، لان أمريكا ليس لها تاريخ استشراقي باستثناء بعض المهاجرين من المستشرقين الأوروبيين الذين حملوا معهم أفكار الاستشراق التقليدي، ولكن نظراً لقلتهم لم يكن لهم تأثير كبير على مسيرة الدراسات الاستشراقية هناك،بل خضعوا في النهاية للتوجه الاستشراقي الأمريكي حيث إهمال الدراسات التقليدية لأسباب عملية منها صعوبتها وعدم وجود الاستعداد اللغوي والعلمي للدخول في الاستشراق التقليدي الذي يعود تراثه إلى مدرسة فقه اللغة.
هـ- سقوط الشيوعية:
مثّلت الشيوعية- قبل سقوطها- واحدة من اكبر الأيديولوجيات في العصر الحديث وتمكنت من الوقوف في وجه الغرب الرأسمالي كمنافس قوي، من النواحي الفكرية والسياسية والعسكرية.وتكونت مدرسة كبيرة شيوعية في الاستشراق سيطرت على الدراسات العربية والإسلامية في كل أوروبا الشرقية ، وتمكنت من التغلغل في العديد من البلاد العربية الإسلامية، وأثرت في توجهات بعض مفكريها الذين تبنوا هذه النظرية وفسروا من خلالها الإسلام والأحداث الجارية في الشرق الأوسط. كما أصبح لهذه النظرية أتباع في أوروبا الغربية حيث ظهرت بعض الأحزاب الشيوعية القوية في فرنسا وإيطاليا ..الخ.
وفجأة تبدأ الشيوعية في السقوط، ويتخلى أصحابها عن الأيديولوجية بكاملها وما يهمنا -في هذا الوقت- هو سقوط واحدة من أكبر المدارس الاستشراقية في العالم، وأصبح مصير هذه المدرسة مجهولاً. هل ستحدث فيها تغيرات جديدة فيما يتعلق بالدراسات العربية و الإسلامية؟ هل ستطور المدرسة القديمة من نفسها وتتكيف مع الأوضاع الجديدة؟ وإذا كان الاتحاد السوفيتي -السابق- يتجه الآن إلى النظام الغربي. فهل سينعكس هذا على الدراسات الاستشراقية فيها؟ أم سيكون هناك وجود لمدرستين فيها- مدرسة تقليدية يتولاها بقايا الشيوعيين، ومدرسة حديثة تأخذ بالفكر الرأسمالي أو الأيديولوجيات الأوروبية في دراسة الإسلام.
وما موقف المتخصصين في الدراسات الإسلامية من أبناء المسلمين الذين كانوا بالأمس شيوعيين؟ ودرسوا الإسلام-بالفعل - من وجهة نظر شيوعية؟ هل سيكونون مدرسة إسلامية جديدة؟ أو سيتبعون إحدى المدرستين السابقتين.([9])
ولا يمكن التكهن -الآن- بما سيحدث للدراسات الإسلامية والعربية، ولا بد من الانتظار بعض الوقت حتى تتضح الرؤى وتتبلور أفكار هذه المدارس حتى يمكن الحكم على توجهها في دراسة الإسلام.
والعبرة التي نخرج بها من هذا السقوط المخجل للشيوعية ومدرستها الاستشراقية تكمن في: الضعف الأيدلوجي لمدارس الاستشراق -عامة- فقد بدأت معظم هذه الأيديولوجيات تدخل مرحلة من الضعف ستؤدي بها إلى السقوط الأيديولوجي وستؤدي بمدارسها الاستشراقي إلى الانهيار كذلك.
فبعد الشيوعية ستدخل المدرسة الإلحادية والعلمانية في مراحل من الضعف كما دخلت المدرستان الدينيتان اليهودية والنصرانية في مرحلة التدهور الفعلي ويبدو أن العصر الذي نعيشه يشهد -بالفعل- عصر الأزمة الحقيقية للمدارس الاستشراقية.([10])