الحائط المسدود , نص مقال الحائط المسدود فاروق جويدة
الحائط المسدود , نص مقال الحائط المسدود فاروق جويدة
الحائط المسدود , نص مقال الحائط المسدود فاروق جويدة
حتى وقت قريب كنا نرى في آخر النفق المظلم ضوءا خافتا يمنحنا بعض الأمل وبعض التفاؤل، رغم اننا نمضي في طريق مجهول وربما وصل بنا إلى نتائج ترضينا.. والآن اكتشفنا ان في آخر النفق حائطا مسدودا وان ما رأيناه لم يكن أكثر من سراب خادع، واننا في نهاية المطاف نجني ثمار أخطاء فادحة كان من الممكن ان نتجنبها أو على الأقل نخفف من آثارها الكارثيه.. يقف المصريون الآن امام مستقبل غامض نكاد نخسر فيه واحدة من أروع الفرص التي أتيحت لنا ولم نتعامل معها بقدر من الحكمة، وان ما رأيناه ضوءا أصبح الآن سرابا.. ما يحدث علي الساحة الأن ليس جديدا وما وصلنا إليه من النتائج السيئة سبقته مقدمات كثيرة كان العقلاء في هذا البلد يحذرون منها وينبهون إليها، ويؤكدون ان ما يحدث يحمل مخاطر كثيرة.
< من كان يصدق ان تصل بنا الانقسامات والصراعات والمعارك إلى ان نجد انفسنا امام فريقين لا ثالث بينهما هما الإخوان المسلمون والحزب الوطني.. دارت بنا الأحداث والأيام والمعارك لنعود مرة أخرى إلى نقطة الصراع الأبدي الذي ضيع علي هذا الشعب فرصا كثيرة للتقدم في كل المجالات.. عادت صورة الصراع الدامي بين الإخوان المسلمين والسلطة الحاكمة سواء كانت مجلسا عسكريا أو اتحادا إشتراكيا أو قوميا أو وطنيا، أو كل هذه المؤسسات التي احتكرت سلطة القرار منذ قامت ثورة يوليو وبدأ عداؤها التقليدي مع الإخوان المسلمون والتيارات الدينية.. من كان يتصور بعد ثورة يناير وانتفاضة شباب مصر ان تكون الجولة الأخيرة لاختيار رئيس للجمهورية بين الإخوان والحزب الوطني. كنا نحذر منذ عام ونصف العام ان الانقسامات بين القوى السياسية والوطنية سوف تؤدي إلى تصفيات واختراقات وان اولى ضحاياها هم شباب الثورة ومستقبل هذا الشعب.. والآن نقف جميعا امام ركام هذه المعارك والجميع يندب حظه.
< كنا جميعا نعلم ان هناك اطرافا خارجية تسللت إلى الشارع المصري بعد الثورة وانها تمهد لأحداث كبرى، وان المال السياسي يتدفق بقوة ويفسد الذمم ويشتري الضمائر ابتداء بشراء اصوات الناخبين بالمال وانتهاء بالطعام والسكر والزيت وان البعض ينتهز فرصة الوضع المأساوي لطبقات اجتماعية منهكة تعاني ظروفا اقتصادية صعبة طوال عهد الحكم البائد وان هذه الظروف ازدادت سوءا امام انهيار الأمن وغياب السياحة وتراجع الموقف الاقتصادي، ولم يكن خافيا على أحد ان طبقة المنتفعين من العهد البائد سوف تدفع اموالا طائلة لإسقاط الثورة وتشويه صورتها في ضمير الناس وان هناك مخططا في غاية الذكاء لإرباك المصريين والدخول بهم في دوامة قاسية تدفع بهم دفعا إلى حالة من الإحباط والاكتئاب والحيرة..
< كنا نشاهد بأعيننا الإعلام المتواطئ بكل أجهزته وأساليبه الصحفية والفضائية والإلكترونية وهو يمارس كل ألوان الخداع والدمار والمتاجرة.. وكنا نري الفضائيات وهي تشيد كل يوم بمئات الملايين وتشتري الأقلام والعقول والأفكار والذمم، وكنا نعلم ان ذلك كله يحمل برامج واضحة لتخريب ما بقى من عقل ووعي هذا الشعب.. ونجح الإعلام المأجور في تشويه الثورة وترويع الشعب وشراء الضمائر والتمهيد لحالة انفلات على كل المستويات شارك الإعلام المأجور في زيادة الانقسامات ونشر الفتن بين القوى السياسية وفتح النيران من كل جانب وبدأت عملية تصفيات لكل فكر واع وضمير حي.. لعب الإعلام المصري دورا مشبوها في إجهاض الثورة وتشويه رموزها وللأسف الشديد ان ذلك كله تم تحت عين السلطة وكانت تري مئات الملايين التي هبطت على الإعلام المصري ولم يتحرك أحد ووصلت بنا حدة الإنقسامات إلى أبناء الأسرة الواحدة وما حدث في الانتخابات الرئاسية أكبر تأكيد على ذلك.
< كنا نرى التصفيات الفكرية والمعارك الأيديولوجية وكأننا عدنا مرة أخرى إلى زمن الحرب الباردة، فكان الهجوم الضاري من أبواق العهد البائد على التيارات الدينية، واتسعت دائرة الخصومة للطعن في كل شئ وإشعال الفتن في كل اتجاه وكانت هناك أقلام جاهزة بحكم تاريخها الطويل في حمل المباخر للنظام السابق وكل نظام لاحق، وهنا إشتعلت الحرب بين الإسلاميين والسلفيين والعلمانيين والليبراليين ونسى هؤلاء جميعا ان هناك وطنا يتمزق تحت أبواقهم وان هذا ليس وقت المعارك والتصفيات، ووصل الأمر إلى ما نحن فيه الآن إما أنتم أو نحن رغم اننا جميعا سنلقي نفس المصير تحت سياط الاستبداد..
الغريب في الأمر ان كل هذه الاتجاهات سواء من حملت راية الدين أو حملة راية الليبرالية لم تتعلم من دروس الماضي حين استخدمتها سلطات البطش والاستبداد في تصفية بعضها البعض.. كلنا يذكر معارك التيارات الدينية مع تيارات اليسار والماركسيين والعلمانيين وكيف استغلت السلطات الحاكمة هذه الخلافات الفكرية في تصفية الجميع.. كانت هذه التيارات مجرد ادوات للسلطة تستخدمها حين تريد، وللأسف الشديد ان الأخطاء تكررت مع ثورة يناير بنفس الأساليب ونفس الدرجة من الغباء السياسي والتخلف الفكري.
كنا نتصور اننا تعلمنا بعد ان وصلنا من العمر أرذله ولكن للأسف دارت نفس المعارك وبنفس الأساليب، والأخطر من ذلك اننا لم نكتف بأجيال قديمة مارست هذا العبث ولكننا تركنا للأجيال الجديدة نفس الأمراض ونفس النقائص التي اضاعت اجيالنا المغيبة.
< في الوقت الذي إتجهت فيه كل الجهود والأعمال إلى تصفية القوى السياسية والوطنية التي شاركت في ثورة يناير بقيت مؤسسات النظام السابق بكل متاريسها المادية والمعنوية تمارس دورها في السيطرة وتوجيه الأحداث.. كانت المعارك والتصنيفات تجري بين الإسلاميين والعلمانيين والسلفيين والليبراليين بينما هناك فريق أخر ابتعد تماما عن هذه المعارك حتى لا يصيبه رذاذها.. نسيت الفصائل المتصارعة من قوى الثورة الأموال المهربة.. والشركات المباعة.. والجرائم السياسية طوال ثلاثين عاما ومواكب الفساد المالي والسياسي والفكري والسلوكي.. نسيت قوى الثورة عشرات بل مئات الأشخاص الهاربين بأموال الشعب.. ونسيت ما حدث في سجلات المعتقلين السياسيين من كل هذه التيارات واتجهت إلي تصفية بعضها البعض.. وشارك الإعلام المصري بدور رهيب في إشعال الفتن بين القوى الوطنية التي شاركت في الثورة، وكان ينبغي ان تكمل هذه القوى مشوارها لتأكيد نجاح الثورة في اقتلاع جذور ومؤسسات العهد البائد، ولكنها للأسف الشديد تفرغت لضرب وتصفية بعضها البعض.. وكانت النتيجة ان تحولت صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات والنت والفيس بوك إلى أبواق لتشويه كل من شارك في الثورة من جميع القوى والأجيال حتى تقطعت كل جسور التواصل بين هذه الثورة والمواطن المصري.. تحول الثوار في الإعلام المصري إلى عملاء ومرتزقة.. وتحولت القوى السياسية أيا كان تاريخها إلى معاقل للتخلف.. وتحول المناضلون الذين وقفوا ضد العهد البائد إلى مجموعة من أصحاب المصالح.. واستطاع السيرك الإعلامي ان يضيع على المصريين واحدة من اهم واعظم الفرص الضائعة في تاريخهم الحديث وبدلا من ان تتجمع قوى الثورة وتتوحد لإزالة ما بقى من العهد البائد بعد سقوط رأس النظام تحولت جميعها بكل تياراتها الفكرية إلى معاول لهدم بعضها البعض، وحين افاقت وجدت نفسها امام حائط مسدود.
< وكان من أسوأ النتائج التي شهدتها ساحة القوى السياسية انها فقدت الثقة في بعضها البعض واصبح من الصعب ان ترى تيارا واحدا يجتمع حول مبدأ أو فكرة، انقسم الإسلاميون على بعضهم ما بين إخوان وسلفيين وجماعات إسلاميه، وانقسم الثوار ما بين فصائل مع أو ضد، وانقسم الليبراليون والعلمانيون واخيرا انقسمت مصر كلها إلى اتجاهين ما بين الثورة وأعداء الثورة، وما بين الوطني والإخوان، وما بين التيار الديني والتيار المدني وتحاول ان تسأل هؤلاء جميعا عن جوانب الخلاف وتكتشف انهم جميعا شاركوا في ثورة يناير وباعوها في سوق المزايدات والمصالح.
في الإنتخابات الرئاسية لم يتفق الجميع على شيء اختلف الثوار مع الثوار، واختلف الإسلاميون مع الإسلاميين، واختلف الليبراليون مع الليبراليين ولم يربح أحد.
إن السؤال الحائر الآن في الشارع المصري ماذا نفعل امام هذا الحائط المسدود.. وماذا عن الثورة.. والمستقبل.. واحلام التغيير..
أولا: مازلت عند موقفي ان علينا كشعب ان نخوض التجربة حتى آخر مداها حتى لو تحولت إلى مواجهة بين الإخوان والحزب الوطني، لأن الإخوان الآن ليسوا إخوان الأمس، ولأن الحزب المنحل لا يمكن ان يرجع للوراء إلا إذا عاد الزمن وهذا امر مستحيل علينا الآن ان نمارس الديمقراطية بشروطها وثوابتها وهي أشياء لا خلاف عليها اساسها احترام إرادة الشعب.
ثانيا: من حق كل مواطن ان يختار المرشح الذي يريد حسبما يمليه عليه ضميره الوطني، وقد تأكد لنا بعد ثورة يناير ان هذا الشعب قادر على إسقاط اي نظام يتعارض مع مصالحه ومطالبه وطموحاته.. وإذا كان الشعب قد أسقط دولة الاستبداد فهو قادر على أن يفعل ذلك الف مرة.. ان مصر الخنوع قد ودعت عهد البطش والتحايل والاستبداد ولن تعود إليه مرة أخرى، وعلينا ان نثق في انفسنا واننا قادرون على ان نرفض ونحتج، وان أي رئيس قادم لهذا الوطن لابد ان يدرك من البداية انه جاء ليحكم شعبا آخر في زمان آخر وبشروط تختلف تماما عن كل ما عشناه في زمن القمع والإستبداد.
ثالثا: لايهم الآن من هو الرئيس القادم ولكن الأهم ان نجد دستورا يؤكد دور هذا الشعب من خلال قوانين تحمي العدالة وحرية الفرد وحقه في حياة كريمة إن الدستور اقوى من أي حاكم والقانون ميزان العدالة وكل الحكام الطغاه اقاموا دولتهم على أنقاض الدساتير واشلاء القوانين وغياب العدالة وفوضي القمع والاستبداد.
رابعا: في ظل انتخابات نزيهة وإرادة شعبيه حقيقية ورقابة دولية ومحلية على لجان الإنتخابات سوف نقبل أي رئيس تحمله إرادة الشعب حتى لو جاء على غير رغبة منا، وعلى الرافضين ان يأخذوا مواقعهم في تشكيل معارضة جادة وحكومة ظل ونخبة تدرك مسئوليتها في حماية مصالح الشعب، علينا ان نشارك في تشييد نظام حكم جديد يؤمن بالحوار ويترفع عن صراعات المصالح ويعيد لمصر نخبتها العظيمة التي ظلت دائما حصنا للحريات وقلعة من قلاع الوطنية.
لنجعل من هذه الانتخابات درسا نتعلم منه حتى ولو كان الدرس خاطئا ومؤلما وكئيبا لان الشعوب تتعلم من تجاربها حتى ولو كانت مؤلمة. ان ملايين الاصوات التي ضاعت امام أخطاء مرشحي الثورة يجب ان تكون الاساس لبناء جبهة وطنية ثورية جديدة تقود هذا الوطن نحو المستقبل.
في ظل انتخابات شرعية وبرلمان منتخب ورئيس جاء بقرار من شعبه وقوانين صحيحة ودستور ملزم لن يسمح المصريون بميلاد فرعون جديد، وعلينا ان نمضي في الطريق حتى لو كان مفزعا ومخيفا وجاء على غير ماتمنينا أو توقعنا.. سوف ننتخب رئيسا جديدا ولدينا الثقة في اننا قادرون على عزله بنفس الإرادة الشعبية التي وصلت به إلى كراسي السلطة.
.. ويبقى الشعر
لماذا استكنت....
وأرضعتـنا الخوف عمرا طويلا
وعلمتـنا الصمت.. والمستحيل..
وأصبحت تهرب خلف السنين
تجيء وتغدو.. كطيف هزيل
لما استكنت؟
وقد كنت فينا شموخ الليالي
وكنت عطاء الزمان البخيل
تكسرت منـا وكم من زمان
علي راحتيك تكسر يوما..
ليبقي شموخك فوق الزمان
فكيف ارتضيت كهوف الهوان..
لقد كنت تأتي
وتحمل شيئـا حبيبا علينا
يغير طعم الزمان الرديء..
فينساب في الأفق فجر مضيء..
وتبدو السماء بثوب جديد
تـعانق أرضا طواها الجفاف
فيكـبر كالضوء ثدي الحياة
ويصرخ فيها نشيد البكارة
يصدح في الصمت صوت الوليد
لقد كنت تأتي
ونشرب منك كؤوس الشموخ
فنعلـو.. ونعلـو..
ونرفع كالشمس هاماتنا
وتسري مع النور أحلامنا
فهل قيدوك.. كما قيدونا..؟!
وهل أسكتوك.. كما أسكتونا؟
دمائي منك..
ومنذ استكنت رأيت دمائي
بين العروق تـميع.. تـميع
وتصبح شيئـا غريبا عليا
فليست دماء.. ولا هي ماء.. ولا هي طين
لقد علـمونا ونحن الصغار
بأن دماءك لا تستكين
وراح الزمان.. وجاء الزمان
وسيفك فوق رقاب السنين
فكيف استكنت..
وكيف لمثلك أن يستكين
علي وجنتيك بقايا هموم..
وفي مقلتيك انهيار وخوف
لماذا تخاف؟
لقد كنت يوما تـخيف الملوك
فخافوا شموخك
خافوا جنونـك
كان الأمان بأن يعبدوك
وراح الملوك وجاء الملوك
وما زلت أنت مليك الملوك
ولن يخلعوك..
فهل قيدوك لينهار فينا
زمان الشموخ ؟
وعلمنا القيد صمت الهوان
فصرنا عبيدا.. كما اسـتعبدوك
تعال لنحي الربيع القديم..
وطهر بمائك وجهي القبيح
وكسر قيودك.. كسر قيودي
شر البلية عمر كسيح
وهيا لنغرس عمرا جديدا
لينبت في القـبح وجه جميل
فمنذ استكنت.. ومنذ استكنـا
وعنوان بيتي شموخ ذليل
تعال نعيد الشموخ القديم
فلا أنا مصر.. ولا أنت نيل.
"من قصيدة الى نهر فقد تمرده سنة 1983"