دور الإيمان باليوم الآخر في ضبط سلوك الإنسان في الحياة
محمد شركي
كثيرا ما يتحدث الناس عن الإيمان كحديثهم عن الأمور التجريدية غير الملموسة أو المحسوسة التي لا تلابس واقعهم وحياتهم ، وهذا سوء فهم منهم للإيمان ، وسوء تقدير له . والحقيقة أن الإيمان أمر موجود في حياة الناس وملموس في كل عمل من أعمالهم. ولا يوجد عمل بشري يصدر عن إنسان دون خلفية عقدية . وتلك الخلفية العقدية تقوم على أساس وجود الإيمان أو انتفائه . فلكل عمل غاية وهدف تحدده الخلفية العقدية حتى وإن بدا هذا العمل مرتبطا بالواقع المعيش من قبيل الأكل والشرب والوقاع ، وهي أعمال غريزية ضرورية لوجود الإنسان وبقائه .
فكل الناس منذ وجدوا يأكلون ويشربون ويتناسلون ،ولكن من وراء ذلك عقائد تحدد لهم القصد والغاية من أكلهم وشربهم وتناسلهم . وإذا ما غابت الخلفيات العقدية التي تحدد أهداف وغايات هذه الأعمال التي يقوم بها البشر ، خرج هذا البشر من خانة جنسه إلى خانة أخرى لمخلوقات تأتي نفس الأعمال بدون خلفيات عقدية.فالأنعام مثلا تأكل وتشرب وتتناسل ، ولكنها تفعل ذلك بدون خلفية عقدية تحدد غايتها من أفعالها .
ومن هنا تأتي أهمية الخلفيات العقدية ، وتأتي أهمية الإيمان باعتباره خلفية عقدية . فالإيمان في دين الإسلام هو عبارة عن إقرار البشر بأنهم مخلوقات خلقها خالق جل جلاله لغاية هي الاختبار والامتحان والابتلاء من أجل المكافأة أو العقاب . فهذه الخلفية العقدية تربط بين أركان الإيمان الستة ، ذلك أن الإقرار بالمخلوقية يقتضي ضرورة الإقرار بالخالق ، وعن هذا الإقرار تترتب أنواع أخرى من الإقرارات كالإقرار بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر .
فعندما يصل الإنسان إلى القناعة بأنه مخلوق خلقه خالق ويعتقد ذلك في نفسه ، لا مندوحة له عن الاعتقاد بما أخبره به خالقه عن طريق كتب أو رسائل أرسلها إليه عن طريق رسل من الملائكة والناس ، وعن الاعتقاد بأنه في حالة اختبار وامتحان في حياة فانية وجدت للعمل تعقبها حياة باقية مخصصة للمكافأة والعقاب ، ولهذا كان للحياة الفانية يوم آخر تنتهي فيه لتبدأ الحياة الباقية ، وخلال الحياة الفانية يوجد قدر وهو فعل الخالق ، وهو فعل ذو وجهين : وجه خير ووجه شر اقتضتهما إرادة الخالق لاختبار المخلوقات . والإنسان المخلوق عندما يقوم بعمل ما في حياته ، فهو إما أن يطيع خالقه ،وإما أن يخالفه ، لأنه بحكم اعتقاده يخوض تجربة اختبار وامتحان وابتلاء ، ولا يمكن أن يوجد خارج هذه التجربة .
ولهذا السبب هو في حاجة ماسة إلى استحضار خلفيته العقدية باستمرار كلما هم بفعل عمل من الأعمال ، وبموجب هذه الخلفية العقدية يستحضر مراقبة خالقه له ،ويتوقع محاسبته ، وينتظر مكافأته أو عقابه على كل عمل جرحه بليل أو بنهار. ومن المؤكد أنه إذا ما استحضر اليوم الآخر الذي يؤمن به أو هو على يقين تام به ،فإنه سيوجه أعماله الوجهة التي تضمن له النجاح في الاختبار والامتحان والابتلاء عوض الفشل . ومن هنا تأتي أهمية الإيمان باليوم الأخر ، وهو يوم يحيل على محكمة إلهية عليا القاضي فيها هو الخالق جل شأنه ، والشهود فيها ملائكته ورسله ، والحجج فيها هي كتبه ورسالاته ، والمتهم فيها هو الخلق ، والجزاء فيها هو إما الخلود في النعيم أو الخلود في الجحيم في الحياة الأخرى التي تعقب الحياة الأولى.
وأكياس الخلق هم الذين يعملون لما بعد الحياة الأولى ، والعجزة منهم هم الذين لا يحسبون حسابا للحياة الأخرى من خلال استبعاد اليوم الآخر من حسابهم واعتبارهم . وعجبا لبعض الناس يظهرون الحذر من العقاب في الحياة الأولى ، ولا يحضرهم هذا الحذر من عقاب الحياة الأخرى. ولقد رأيت بعض الناس عندما تقيم الشرطة أو الدرك على سبيل المثال كمائن على الطرق لمراقبة السرعة بالرادادر ينبه بعضهم بعضا عن طريق الأضواء أو الإشارات إلى ما يعتبرونه خطرا يسبب لهم العقاب ، فيحرصون على الإفلات من هذا العقاب عن طريق تعديل سرعتهم لتكون منسجمة مع السرعة المسموح بها والمتوافق بشأنها لفائدة الجميع. والغريب أن الذين يسلكون هذا السلوك تجنبا لعقاب بسيط وزائل ، لا يبالون بالتحذيرات الموجودة في الرسالة السماوية الموجهة إليهم ، وهي تحذيرات من عقاب شديد ودائم . فكان من المفروض في الذين يخففون من سرعتهم في الطرق بعد تنبيههم من طرف غيرهم لوجود شرطة أو درك يرصدونهم أن يكون لهم نفس الموقف عندما يهمون بالأعمال المنهي عنها أو يباشرونها ، مع وجود من يحذرهم من مغبتها . فليس من الكياسة ولا من العقل أن يحذر الناس العقاب الزائل ، ولا يبالون بالعقاب الدائم .
فلو أن الزناة ، والسكارى، واللصوص ،والمقامرين ، والمرتشين ، والظالمين ، والغشاشين ، والمحتكرين ، والمزورين ، والمغتابين ، والنمامين ، وأهل البهتان ، و أصحاب الموبقات المختلفة استحضروا اليوم الآخر وحسبوا له حسابه، وانتبهوا إلى التحذيرات من هذه الموبقات الموجودة في رسالة خالقهم لما أقدموا على فعلها، تماما كما يعدلون من سرعتهم غير القانونية حين ينبهون إلى مكامن الشرطة الراصدة لهم على الطرق. إن الانحرافات التي تقع للناس في حياتهم إنما تعود إلى إسقاطهم من حسابهم اليوم الآخر ، وهو ما ورد ذكره في رسالة السماء في قوله تعالى : (( وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون )).
فما الصراط المذكور في قول الله تعالى سوى ممارسة الحياة كما أراد الخالق سبحانه ، وهو صراط مستقيم ، وتنكبه هو الانحراف عن الاستقامة . ويؤكد الله تعالى أهمية الإيمان في توجيه الخلق بقوله جل من قائل : (( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)) فقيمة العمل إنما تكون بالإيمان الذي يوجه هذا العمل التوجيه الصحيح ، وإلا فلا قيمة لهذا العمل في اعتبار الخالق سبحانه . ومن الكفر بالإيمان التكذيب بالرسالة السماوية وبلقاء الآخرة مصداقا لقوله تعالى : (( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم )) فالذي يحبط الأعمال مهما كانت هو التكذيب بالرسالة التي أكدت أن الحياة الأولى إنما خلقت للاختبار والامتحان والابتلاء، وأن الحياة الأخرى إنما خلقت للجزاء.
فمن أنكر الحياة الأخرى أنكر بالضرورة فكرة الجزاء ، ومن ثم أنكر بالضرورة الاختبار في الحياة الأولى ، ومن ثم حبط فيها عمله بالضرورة ، لأنه عمل لا يستحق المكافأة بل يستوجب العقاب ،لأنه عمل لم يراع منطق الاختبار والامتحان والابتلاء. ومن مميزات الذين يسقطون من حسابهم الحياة الآخرة الإنكار والاستكبار لقوله تعالى : (( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون )) .
فهم بعدم إيمانهم بالحياة الآخرة ينكرون فكرة الخالق وفكرة الاختبار والامتحان والابتلاء ، ومن ثم يستكبرون عن خالقهم من خلال استبدال شرعه بشرائع أهوائهم. ولهذا حذر الخالق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء المستكبرين على شرعه فقال : (( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون )) . وهؤلاء يضيقون من كل ما له علاقة بالخالق جل شأنه ، ولا يرتاحون له ، وقد وصف الله تعالى حالهم بقوله : (( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )) .
أوليس كثير من الناس عندما يذكر شرع الله عز وجل تضيق صدورهم ، وعندما تذكر شرائع الأهواء تنشرح صدورهم ؟ ومشكلة هؤلاء أن شرائع أهوائهم تزين لهم ، فيرونها أفضل من شرع الله عز وجل ، وهو ما سجله الوحي في قوله تعالى : ((إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون)) ، فبموجب هذه الآية الكريمة يعتقد الذين يسقطون من حسابهم اعتبار الآخرة أن أعمالهم سديدة وموفقة ، وهي خلاف ذلك .
والعمه أو العموه إنما هو التردد والحيرة ،لأن هؤلاء لا تحصل لديهم القناعة التامة بأن أعمالهم سديدة وموفقة، بل يترددون في ذلك ،لأنها إنما تزين لهم فقط ، والتزيين إنما يكون للشيء الشين ليصير زينا .