وقاحة الأدب
(أدباء الطابور الخامس)
محمود محمد شاكر
نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية:
فالحقيقة الأولى: هي مطالب الفرد لنفسه، ورغباتُه، وأمانيه، وأحلامُه.
والحقيقة الأخرى: هي مطالب الجماعة المكونة من الأفراد، على اختلاف نزعاتهم في أنفسهم، وخاصتهم.
وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة، وتوجيهه في الحياة الاجتماعية عامة إلى جهة بعينها، وخاصة إذا كان مردُّ أعمال الأفراد إلى قاعدة عامة، تطلق لهم من الحرية ما يجعل أعمال الفرد استقلالًا على طريقة المصلحة الفردية، التي لا تحترم قيود الجماعة.
وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة، التي لا ترقى بها هذه الجماعة المختلفة قوة وضعفاً، ولؤماً وكرماً، وعقلاً وسفاهة، وحكمة وضلالاً.
وأخطر الأشياء في حياة الجماعات والشعوب هي القواعد العامة، التي يأتي من تفسيرها وتوجيهها سيل طامٌّ متدفق من تيارات الأفكار المتنازعة، التي تتنابذ ولا تتعاون.
فلذلك نحن نعدُّ المبادئ العامة، التي تسيِّرها أعمال الأفراد، مستقلة عن الفكرة الاجتماعية الرحيمة، التي تخاف سوء المغبة في جسم الجماعة- هي الأصل الذي يجب أن يُمحَّص ويُحقَّق ويُضبَط؛ حتى لا تتنازع عليه الأهواء، أو الشهوات، ودناءات الأخلاق الفردية المستأثرة، والتي تعيش بلذاتها قبل حقائق لذاتها؛ فإن طغيان الوحشيَّة الفرديَّة يُفضي بالعالم إلى فوضى في الجماعة، لا تقاومها حسناتُ المجتمع، أو مصالحه، أو حقيقة حياته.
فأنت ترى من ذلك أن أهمَّ ما يجب علينا أن نتوجَّه إليه، هو ضبط النِّسبة بين حاجة الفرد المستقل، باعتباره فرداً من جماعة مستقلة أيضاً.
تريد هذه الجماعة أن تجتنب أكبر قسط، بل أعظم كارثة من بلاء التشقُّق الاجتماعي، الذي يأتي من وراء القانون، الذي يضبط دولة الجماعة، ويقوم على حياطتها؛ طلباً لإسعادها والترفيه عنها، ووقايتها من التدهور الأدبي، والعقلي، والسياسي، والاجتماعي.
وقد كان من بلاء المدنية الأوربية الفاجرة أن انفجرت في الأخلاق الفردية انفجاراً بعد انفجار، حتى صارت مِزَقُ الأخلاق نثراً متطايراً، لا يجمعه جامع يكون للجماعة- من صعلوكها إلى مليكها- جِماعاً، ومِلاكاً، واستحصاداً، يمسح عن آلام البشرية تلك الدموع الغزيرة التي تجري تحت ظلام تلك الأثرة، والبغي، والاستبداد، والشهوات المظلمة في نفوس مظلمة مثلها.
وأنشأت هذه الطريقة الدنيا من الشهوات المستحكمة الغالبة مبادئ، يتخذها الأفراد شعاراً، ثم جعلت تتخذها بعض الجماعات رمزاً لحياتها، ولكنها مع ذلك لا تعدُّها نظاماً لجماعة، بل تبديداً لنظام الجماعة، أو لما ينبغي أن يكون عليه نظام الجماعة.
فمن هذا البلاء ما يقوم في عقول بعض المتأدِّبين من حرية الإنتاج الأدبي على أيِّ صورة من الصور، أي أن يدور الأديب بإنتاجه حول شهواته الخاصة، التي يبثُّها أدباً في أُمَّته، ويدَّعي مع ذلك أن هذه الحرية الشخصية في نظرته إلى الحياة، وأعماله في الحياة، وتصوير هذه النظرات والأعمال- عمل أدبيٌّ حرٌّ يكفل له الناس الانتشار والذيوع، وأن يدخل على الأحرار في بيوتهم، وعلى العقائل في خدورهنَّ الطاهرة وعفافهنَّ النبيل، وأنَّه يُنزل على الأُمَّهات، والزوجات، والعذارَى وحياً جديداً من الفن، الذي تضمن له فَنِّيَّتُه حرية التغلغل في حصون الأُمَّة المقاتلة عن الذراري والأبناء، وكيان الشعب المولود للمستقبل.
ولا يبالي هؤلاء أن يكون في داخل هذه الحصون الشعبيَّة الهائلة معنًى جديدٌ، يخذل القوى العاملة على إنشاء الحياة الاجتماعية إنشاء يضمن لها البقاء، والاستمرار، والتفوق، والسمو بالشعب إلى القوة الحاكمة، التي تدفع عن أرض الوطن بلاء الاستعباد؛ فإنَّ الرجل إذا استعبدته الشهوة، فهو يدور أبداً في تصريفها مستعبداً ذليلاً، لا يدفع عن نفسه إذا ما أُوتي من هذه الحاسة المتلينة، الخاضعة بطبيعتها إلى سلطان اللذة، غير متورِّعة عن التدلِّي إلى الحضيض، وغير حافلة إلا بالساعة الحاضرة العمياء المظلمة ظاهراً أو باطناً.
وإذا أفسد الأدب أول ما يفسد هذه الحصون، فقد أمدَّ الشعب بهلاكه، وأدخل عليه هذه النوازع المحطِّمة، وبثَّ فيه سراياه وأعوانه، من (الطابور الخامس) الذي يعمل على إيجاد حركة ارتداد تشقُّق وحَيْرة ووجل.
فإذا تمَّ لهذا الطابور الخامس تمامه، استولى على الأُمَّة فمحقها بالفزع، والتسليم، والرضا بالخضوع، والذُّل، قبل أن يمحقها العدو بالآلة، والسلاح، والجيش الغازي.
وفي هذه الأُمم التي لا تملك من سلطان القوة ما تُسوِّغ به السيطرة على ميادينها في صراع الأُمم إذا تصارعت، أي في هذه الأُمم الشرقيَّة، وأخص الأمة العربية- يعيش هذا الطابور الخامس من الأدباء، ويرى أنَّه قد أجاد المذهب، والمسلك، واتَّخذ لأُمَّته أهدى السبيلين، وخير المنزلتين.
وعقيدة هذا الطابور الخامس أنَّ حرية الفنِّ يجب أن لا تتقيَّد بمصلحة الجماعة، أي أن يكون إنتاج هذا الطابور على ما يثور في أنفس أفراده، من النزعات المستكلبة، والنزغات المنفجرة في أعصابه بروح الشهوات.
فالأدباء، والشعراء خاصة، يرون أنَّ أدبهم وشعرهم لابد أن ينطوي على تلك المعاني النفسيَّة النازلة، التي تستولغ في دماء الناس، وأعراضهم المذبوحة بالآلات الحديدة الماضية، التي لا تقاوم بالشهوات الغريزيَّة المجنونة، التي تُضيء لأعينهم سراج اللذة المحرمة، تحت جناح الليل، بين الأخلاق المتهالكة في حانات الفجور، تستنقع بأحلامها وهذيانها في كأس تفوح نشوة، وتسيل عربدة، ثم ماذا؟
ثم يأتي هؤلاء فيدفعون إلى المجتمع نتاجاً مركباً من جميع هذه الرذائل المنهوكة المخمورة، ثم تتغلغل هذه المساخط كلُّها في بيوت الشعب في أوهام الزوجات البريئات، في عيون الفتيات الجاهلات، في أحلام العذارى المتأملات في هدأة الحياة، ينتظرن من وراء النفس والعقل تحقيق أحلام الفطرة الغالبة على كل حيٍّ في هذه الأرض.
ثم يكون ماذا؟ ثم يكون هذا التفكُّك والتَّخاذل بين الأوصال الشعبيَّة، التي يجب أن تتماسك، وأن تجعل من تماسكها وارتباطها قوَّة، وأن تنفث فيها رُوح الجماعة رُوحاً سامية طامحة راغبة جادَّة، تريد أن ترتفع بالجميع فوق شهوات الجميع؛ لتحقق للكيان الاجتماعي كله سيادة تامَّة على الأسباب، التي يصير بها الشعب قوة عاملة على إيجاد السعادة للشعب، وسلالة الشعب في مستقبل أيامه وأعوامه.
فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين، وهم البلاء الماحق، وهم الذلُّ الحاضر، والقيد الرَّبوض، وهم سفالة الإنسانية؛ إذ كانت الإنسانية لا تستطيع إلَّا أن تنزل بهم إلى الحضيض الأوهد من الخضوع لسلطان الشهوة، وهم الهلاك المحقَّق؛ لأنهم سبب التفرقة؛ إذ كان بناء أدبهم على الاستقلال الفردي المحض الذي لا يُقَدِّرُ للجماعة معنى الجماعة، بل يأتيها بكلِّ أسباب التمزيق، والتعاند، والخلاف بين القوى إذا تحررت فانطلقت، فاتخذت كلَّ قوة سبيلاً مناقضاً لاتجاه صاحبتها، فتصبح قوى الشعب كلُّها في نزاع دائم، لا خير فيه، بل فيه كلُّ الشرِّ، وكلُّ البلاء، وكلُّ المحق.
إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يفرغ دمه من معاني الشيطان- لا يستطيع أن ينقي أعصابه من وراثة الغرائز الإنسانية القديمة، الآتية مع الإنسان، من الخطيئة الأولى لآدم، صلوات الله عليه.
وإن أحداً لا يُعطَى التحكُّم في تصريف القدر على الوهم والأحلام، ولكن الإنسان أُعطي العقل، وأُعطي مع العقل الإرادة، وأعطي مع الإرادة طبيعة التعاون، وأُعطي مع هذه الطبيعة نظام الجماعة، فأعطي مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين:
فالحقيقة الأولى: هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية، وبذلك يستطيع أن يضع تحت أعين الجماعة قدوة حسنة، ومثلاً أعلى، ينبل، ويسمو، ويترفع، ويضيء في الأجواء البعيدة بروح الجمال والحقِّ.
والحقيقة الأخرى: هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية، والتقليد من ناحية أخرى، وبجميع ذلك تستطيع الجماعة أن تجعل نظامها سامياً أبداً، عظيماً دائماً، متماسكاً على مرِّ الزمن.
فأدباء الطابور الخامس- هم كسائر الناس- يستطيعون أن يستخدموا العقل، والإرادة، وطبيعة التعاون، ونظام الجماعة؛ لإيجاد المثل الأعلى للشعب، باذلين من أنفسهم تضحية واحدة، هي أن يستحوا قليلاً من الناس، ومن أنفسهم، وأن يجعلوا مصلحة هذا الشعب المسكين نصب أعينهم، وعلى مدِّ أفكارهم، وأن يكونوا عاملين على إيجاد القوة في بناء الأُمَّة، وإصلاح أفرادها، لا أن يكونوا خبلاً خابلاً وفساداً، ونزولاً بالإنسانية السامية إلى الحضيض المظلم، الذي تعيش فيه أرواح الشرِّ المهلكة، تلك الأرواح التي لا تريد من معنى الحرية إلا استعباد الآخرين للشهوات.
أما نحن فعلينا أن نحارب هذا الطابور الخامس قبل أن نحارب أعداءنا من غيرنا؛ لأنَّ هذا هو العدو الحقيقي الذي يخذل قوانا، ويفسد استحكامنا، ويحطِّم قواعدنا الحربية التي بنتها الأجيال من قديمنا الأول.
هذا الطابور الخامس هو من رسل المدنية الخَرِبة التي تهدَّمت، ولا تزال تتهدَّم، وستتهدَّم في ميادين القتال إلى هذا اليوم؛ فلنعمل جميعاً على أن نكون من الفرق الواقية من دسائس الطابور الخامس.