إذا كنت طالبا وفي أي مرحلة من مراحل الدراسة, من رياض الأطفال, إلى أعلى الرتب العلمية في الجامعة، فلدينا ما يسركم, إذ نعلن لكم عن توفر جميع التقارير والأبحاث والدراسات, وفي مختلف التخصصات ولكل المراحل التعليمية, فإذا كنت تبحث عن النجاح أو القبول أو التخرج أو الترقية أو التثبيت، أو كنت تريد أن تهدي مسؤولك بحثا ما باسمه ليرضى عنك، فكل ما تريدونه متوفر لدينا في أبحاث مول.؟! فأسعارنا تنافسية، كل ما عليك هو دفع مبلغ من المال لتجد بحثك أو دراستك جاهزة وقابلة للنشر, ومنشورة أيضا في أرقى المجلات العالمية بدءا من الجامعات الصومالية, وانتهاءً بجامعات الكونغو الديمقراطية الشعبية! وعليها اسمك من أربعة مقاطع وعنوان بحثك الذي لا تعرفه أصلا..؟!
ترى لو كانت هذه الأبحاث أو الدراسات التي تنشر في مجلات عربية أو أجنبية, لو كانت سلعة أو مادة غذائية للتصدير فهل تقبل بها هذه الدول..؟
نعم، هذا هو الواقع المؤلم، ابتداءً من المراحل الدراسية الأساسية, وانتهاءً بالدراسات العليا وما بعدها، والتي هي لغايات الترقية والترفيع.
فعندما يطلب المعلم من الطالب أن يكتب له تقريرا أو بحثا متواضعا, يذهب هو أو والده! إلى أحد هذه المراكز وقد كثرت، فيدفع له مبلغا من المال، ليعود ويأخذ التقرير الذي لا يعرف محتواه, ليسلّمه إلى المدرس للحصول على رضاه وعلى درجاته, وبدوره (إلاّ من رحم ربك) يقوم بتخزينه (دون مناقشة الطالب به والسؤال عن محتواه والفائدة التي حصل عليها) ليكوّن التلال السبع في مكتبه, فلا يقرأها هو ولا يطلّع وهكذا...
أمّا المصيبة الكبرى فتكمن في مراحل الدراسات العليا (مرحلة تدريس وتفعيل البحث العلمي حسب الأصول), وعند أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية, فهذه حدث ولا حرج (ولا أعمم) مع كامل الاحترام والتقدير لمن يحملون شهاداتهم العلمية ولا تحملهم، وأبحاثهم القيّمة المثمرة، وهم قدوة لكل الطلبة المثابرين، فكل التقدير والاحترام لهم.
لكني أردت هنا أن أخص من (تحملهم شهاداتهم العلمية). فأبحاثهم ودراساتهم التي هي إمّا من المراكز المذكورة آنفاً, أو من جهد طلابهم في الدراسات العليا من ترجمة ودراسات وبيانات وغيرها، ويعلم ذلك تماما طلبة الدراسات العليا المغلوبون على أمرهم. لكن ما أردت الإشارة إليه هنا هو انتشار هذه المؤسسات والمراكز التي تدرّ دخلا كبيرا على أصحابها؟؟! خاصة إذا ما علمنا أن روادها باتوا في تزايد؛ فالأبحاث والدراسات ونشرها بات أمرا مهما للترقية, وسلم الرواتب لأعضاء هيئة التدريس, وشرط تخرج لطلبة الدراسات العليا.
وأنا هنا لا أضع كل اللوم على رواد هذا المراكز, بل يشمل هذا اللوم والعتب الجامعات وإداراتها التي ما عادت تبحث عن جودة هذا البحث أو أصالته, وفائدته وثماره, وإنما تكتفي بورقة قبول النشر، وكأن الغاية وسيلة والوسيلة غاية, وهذا سبب رئيسي في تدني مستوى البحث العلمي في العالم العربي, ناهيك عن الأبحاث المركبة أو المزوّرة أو مسروقة الثلث أو النصف أو الكل باستثناء اسم الباحث الأصلي.
وقد يقول قائل: (أيعقل هذا الأمر؟) فأقول له: نعم سيدي، هذا ما يحدث، ولك أن تتحرى الأمر وستكتشف الأسوأ.
ولا أدري إن كانت الغاية هي الكم والنشر, أم النوع والجودة. ورسالتي إلى كل المسؤولين وأصحاب القرار في الجامعات العربية هي: أنه يجب وضع معايير وشروط معينة للأبحاث والدراسات، الغاية منها الجودة والنوع, لا التعقيد والكم، وليس لمجرد كونه شرطا وحسب, فلا يقاس البحث بعدد صفحاته, بل بالجديد الذي يأتي به, إضافة لجودته ونتائجه. ودور الجامعات بالتعاون مع المؤسسات المعنية هو في تحويله إلى واقع؛ ليعود بالنفع على الباحث والمجتمع، فأي باحث علمي يعلم بأن نتائج بحثه وتوصياته سيؤخذ بها, سيعمل بجد واجتهاد وبدون كلل أو ملل لينجز هذا البحث بصدق وإخلاص, وبدون الحاجة إلى شراء البحث أو تزوير النتائج؛ لأنه سيعلم حينها بأن بحثه سيثمر معه, ومع مؤسسته وبلده، وسيحرص بعد ذلك على كتابة المزيد وبجودة أعلى.
وأنا هنا لا ألوم هذه المراكز, فهي تأخذ الأمر من باب التجارة والربح المشروع، ولكن أطالب المختصين والخبراء, بل والباحثين أيضا بعمل دراسات علمية دقيقة ونزيهة للبحث عن الأسباب التي تدفع الكثيرين للجوء إليها, ودفع المبالغ الكبيرة من أجل شراء مجموعة من الأوراق التي قد تكون بيعت لأكثر من مرة، ولأكثر من زبون, والخروج بتوصيات يتم العمل بها وتفعيلها.
وأختتم بقول الشاعر:
ربّ علم أضاعه عدم المال
وجهلٍ غطى عليه النعيم
[b]