اللي استحوا ماتوا
بسمة النسور
في زمن ما، شبّ حريق هائل في أحد الحمامات العمومية المخصصة للنساء، فهربت مجموعة كبيرة منهن، تلبية لنداء الحياة، هاربات بجلدهن خشية التعرض للشيّ تحت ألسنة نيران أكول لا ترحم، غير عابئات بعريهن الإجباري الذي انتهك خصوصية الجسد والروح في لحظة شديدة الحسم.
في حين قبعت مجموعة أخرى خلف حيائهن، ورفْض الانكشاف أمام الغرباء، حتى وإن كانت تلك الوسيلة الوحيدة المتاحة للنجاة من موت محقق، مستسلمات لمصيرهن وقودا سريع الاشتعال، شهيدات وشاهدات على عذابات الأنوثة عبر العصور.
من هنا ابتكرت عبقرية المثل الشعبي "اللي استحوا ماتوا" لأن ذلك ما حدث بالضبط؛ فمن سيطرت عليهن مشاعر الحياء دفعن حياتهن ثمنا.
ويقال إن تلك الحكاية حقيقية تماما، ولا تنتمي لمخيلة شعبية فذة، ولو سلمنا جدلا بأنها من نسج خيال عبقري، فإن دلالاتها شديدة الوضوح، وتعبر بشكل بالغ التأثير عن الاستحقاقات التاريخية المطلوبة من المرأة تكفيرا عن أنوثتها!
في زمان آخر تصادف أنه الثامن من آذار، ماتت حرقا، تحت النيران المشتعلة، مجموعة من العاملات في مصنع النسيج، أسيء استغلالهن، وسخرت إنسانيتهن للعمل في ظروف شديدة البؤس، حيث تدني الأجور وساعات العمل الطويلة وانعدام شروط السلامة ما حال دون أدنى فرصة لإنقاذ أوراحهن.
منذ ذلك صار الثامن من آذار يوم المرأة العالمي، الذي انتزعت فيه المرأة حقها في الموت حرقا، ليغدو فيما بعد التوقيت المعتمد دوليا للفت انتباه البشرية إلى ذلك الكائن الذي لم يكف عن الاحتراق على مدى التاريخ!
ورغم المنجز الكبير الذي حققته المرأة في بقاع الدنيا، منتزعة حقها في الوجود كائنا حرا مستقلا، عاقلا قادرا على التميز، ومؤهلا لتحمل المسؤوليات..، إلا أن هذا المنجز يظل محصورا ضمن الفئة الأكثر حظا من النساء، ممّن أتاحت بيئتهن فرص التعليم والعمل والإقرار بحق تقرير المصير، وبالحياة الحرة القائمة على أسس العدالة والكرامة.
غير أن المعاناة ماتزال على أشدها لدى قطاعات واسعة من نساء الوطن العربي، حيث التصنيف ابتداءً ككائن من الدرجة الثانية، يشكل قدومه إلى الحياة سببا كافيا لحزن الأب الذي يتلقى البشارة بالأنثى ووجهه مسود وهو كظيم!
ويتلقى عبارات المواساة والتطمين بأن منْ ينجب الأنثى، ينجب الذكر، و"المهم الصحة" انطلاقا من الثقافة السائدة التي تفيد بأن "همّ البنات حتى الممات"، في استمرار لترسبات ثقافة جاهلية موروثة، ماتزال تتحكم في عقولنا، رغم تعاقب الأزمان، حيث صنفت المرأة في باب الممتلكات التي يتعين حمايتها، لو اقتضى الأمر وأدها في مهدها، تجنبا للسبي وعار القبيلة!
ويأتي الثامن من آذار مناسبة لتأمل ذلك الألق النابع من اشتعال أرواح النساء اللواتي عايشن الألم والقمع والاضطهاد، وتجاوزنه بإرادة صلبة، وصمدن ببطولة مقدمات أمثلة حية على إرادة الحياة، التي تصنعها الأنثى بمفردات الحب والعطاء.
ولا بد من توجيه تحية إلى الرجل الحضاري، المتصالح مع ذاته، الذي يساند المرأة بما تسعى إلى تحقيقه، وكان وقوفه إلى جانبها الدليل العملي على أن الحلم بغد أقل قتامة مايزال ممكنا!
[b]