لما خلق الله ادم وحواء وأمرهما بأعمار الأرض، انزل من التشريعات ما بضبط العلاقة بين الذكر والانثي في ذرية ادم، حتى تصير علاقة طاهرة نظيفة يملؤها العفة والحياء، سعيا وراء استبقاء النوع الإنساني دون اختلاط للأنساب بما يتساوق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعلي الرغم من أن الإنسان هو المخلوق الأكرم مكانة والأكثر تفضيلا علي كثير من المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}... (الإسراء : 70).
إلا أن الله انزل من الشواهد في مخلوقاته من غير الإنسان ما يدلل به علي حكمة التشريع وعظمته في العلاقة بين الذكر والأنثى، في آيات باهرة لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد.
فعالم الحيوان عالم ملئ بالأسرار .. فقد يظن البعض أن العلاقة بين الجنسين ليس لها ضابط أو رابط، وان أي ذكر قد ينزو علي أي أنثي تقع في طريقه، أو أن أي أنثي قد تقبل بأي ذكر تلقاه، ولكن الأمر ليس كذلك، فطائر البطريق إذا أراد التودد إلى أنثاه، يختار حصاة يتقدم بها في زهو وحنان، ويضعها تحت قدميها، فإذا التقطتها، كان ذلك دليل قبولها زوجاً لها، فيتزوجان، وإذا لم يمس وتراً في فوأدها، تركت الحصاة ولم تمسها، وعندئذ يعود فيلتقط حصاه وينصرف بها إلى أخرى...!!
وفي لمحة من الغيرة علي الأعراض نجد أن بعض ذكور الحيوانات يعتريها حالة من الغضب الشديد إثناء موسم التزاوج تعبيرا عن الغيرة الشديدة علي إناثها، فقد وجد أن ذكور الإبل تتغير سلوكياتها في موسم التناسل بحيث لأتسمح لأي كان أن يقترب من قطيع إناثها، فتري الذكر في حالة الهياج وقد اخرج كيس منفوخ من جانب الفم يطلق عليه الطرف الحلقي ويصاحب ظهور الكيس صوت مزعج يرهب به من يسمعه، ثم يخرج إفرازات من غدد قرب الأذنين ويحك بها الأشياء في منطقة الحياض الخاصة به، فإذا ما اشتمها حيوان غريب أدرك قدر الخطر المحدق به فيولي مبتعدا عن هذه المنطقة، وتبلغ الغير مداها عند ذكر الشمبانزي فنجده غيورا جداً على شريكة حياته، فعلي الرغم من أن الشمبانزي حيوان مسالم، إلا انه يصبح عدوانياً عندما يشتبه في أن شريكة حياته غير وفية أو عندما يجدها ترحب بعرض ذكر أخر، فيصل الأمر لكثير منهم، إما أن يشوه شريكة حياته أو يخرجها من حياته عند الاشتباه في خيانتها.
ولا تقتصر قضية الغيرة علي الذكور فقط، فقد وجد أن أنثي البط تغار علي زوجها، فتدفعه لان يعرب لها بالوفاء عندما تريد أنثي أخري أن تتسلل إلي عش الزوجية السعيد، فيقوم الذكر بفرد جناحية وفرد عنقه وطأطأة رأسه مهرولا وراء غريمه أنثاه فيدفعها ويطردها بعيدا عن حياض الزوجية الهانئ، معلنا عن عفته ووفائه لأنثاه.
وإذا كانت بعض الذكور في عالم الحيوان لا تقبل بغير الزوجة فان بعض الإناث لا تقبل بغير الزوج أيضا، فقد وجد أن بعض إناث الحمام لا تقبل بغير زوجها وان راودها زوج آخر عن نفسها فإنها تفر منه وتبتعد عنه، بل قد يدفعها الوفاء لزوجها في بعض الأحيان أن لا تقبل زوجا آخر حتى بعد مماته.
وقد تجد بعض الحيوانات و قد تزيت بزي الحياء الذي قد يخلعه كثير من بني آدم إثناء عملية الالتقاء بين الزوجين، فالإبل في البرية غالبا ما تقوم بهذه العملية مستترة عن أعين الآخرين، كما وجد أن كلا من ذكر وأنثي الحمام يقومان بخفض ذيليهما وجره علي الأرض بعد إتمام عملية الجماع إعرابا عن حالة الخجل والحياء التي تعتريهم بعدها.
كما أظهرت دراسة علمية حديثة أن عملية تزاوج ذكر الإخطبوط الاسترالي تتم غالبا في الظلام، لذا فأنه لا يعرف ما إذا كان يتعامل مع ذ كر أو أنثى إلا بعد أن يتحسس هدفه.
ويتحقق التزاوج بعد أن يدس الإخطبوط أحد قوائمه في جسد الآخر، لذا فقد يغازل ذكر الإخطبوط خطأَ ذكراً مثله على أنه أنثى لكن هذا اللقاء ينتهي سريعاً وبشكل ودي، أما اللقاء بين ذكر الإخطبوط وأنثاه فقد يطول لأكثر من ساعة ونصف الساعة ليتأكد من نجاح عملية التخصيب.
وحتى لا تختلط الأنساب فان الله فطر ذكور بعض الحيوانات أن تلجأ إلي حيل عجيبة تكرّس فيها الكثير من الجهد والوقت للاطمئنان على أن تكون هي الآباء للأجيال القادمة وليس غيرها، فقد وجد أنه أثناء عملية التزاوج في العناكب، يترك الذكر جزءاً منه بداخل الأنثى لكي يقطع الطريق علي المنافسين من الذكور الآخرين ويضمن وجود ذرية خالصة من صلبه لا تختلط بأنساب الآخرين !!! .
أما ذباب الموز فان السائل المنوي يحوي مادة سامة ذات تأثير بطئ إلى درجة أنه يقضي على الأنثى تماماً ولكن بعد وضع البيض الملقح، وبالتالي يصبح الذكر القاتل هو الأول والأخير في حياتها. وفي أنواع عديدة من الذباب والبعوض يمتلئ السائل المنوي لدى الذكور بخليط هرموني يجعل الأنثى عازفة عن المعاشرة بعد ذلك كلياً.
أما بعض الحيوانات لديهم طريقة أخرى، فعالة، لمنع اختلاط "الأنساب"، وهي إغلاق الفتحة التناسلية للأنثى بعد عملية الجماع، بحيث يمنع حصول جماع أخر قبل تلقيح البويضات، فمثلاً نجد أن ذكر الفئران المنزلية يحتوي سائله المنوي على مادة تحوله إلى مادة صلبة تغلق الفتحة التناسلية عند الأنثى لفترة تكفي لتلقيح البويضة عند الإناث.
أما عند الكلاب فان الأنثى تقوم بالضغط على العضو الذكري بحيث لا تسمح له بالتنصل بعد انتهاء القذف، وذلك لتعطي الفرصة لمنويات الذكر - الذي اختارته- للوصول إلى البويضة لتلقيحها، ثم ترفض بعدها أي ذكر يتقدم إليها.
أيا كانت العادة الجنسية التي يكررها نوع ما من الحيوان فأن التناسل وحفظ النوع أساسا يبقى هو الهدفً. فأنثى الحيوان لا تسمح باقتراب الذكر منها إلا لفترة قصيرة جدا، ولا يكون ذلك إلا أثناء دورة الشبق (Estrous cycle) (الدورة النزوية أو الاحترار) والتي قد تكون موسمية أو قد تكون دورية، حيث تكون الأنثى جاهزة لعملية الجماع والتزاوج مع الذكر، ويكون المبيض في قمة نشاطه منتجا عددا من البويضات الجاهزة للتلقيح، كما أن المبيض يفرز أثناء هذه الدورة بعض الهرمونات والتي تكون مسئولة عن التغيرات السلوكية والجسدية التي تطرأ على الأنثى وقت الرغبة في الجماع، وتستمر أعراض الدورة في الأنثى من عدة ساعات إلي عدة أيام في حالة عدم إتمام التزاوج، ولكن إذا تم الجماع بين الذكر والأنثى فأن أعراض الرغبة في الجماع تنتهي بعد ذلك بفترة وجيزة.
فأنثى الحيوان تتقبل الذكر- فقط- وهي مهيأة تماما للحمل بمجرد التلقيح، وما إن يتحقق الحمل حتى ترفض الأنثى الذكر طول العام، أو طول الوقت.
وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالي قد أقام الحجة علي بني ادم بهذا السلوك الذي ينم عن العفة والحياء في بعض مخلوقاته، والتي هي دون الإنسان في القدر والمكانة، فأولي بالإنسان أن يحيا بمعالم ومعاني العفة والحياء ولا يسبقه في ذلك أي كان، حتى يظل محافظا لصدارته فوق كثير من خلق الله، فيحظي بحياة نقية وطاهرة ويبلغ مرضاة ربه الذي أمره بذلك وطلبه منه، بما فيه صالحه وهناءة عيشه.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}... (الأنعام : 38).