غروب الأدارسة في المغرب الأقصى
في تخوم السنوات التي تصل شطري القرن الثاني الهجري تفككت وحدةالمغرب العربي ( تونس ـ الجزائر ـ مراكش ) وبدلا من خضوعه للدول الإسلامية الجامعة سواء دولة الأمويين أو دولة العباسية .. بدلا من هذا انقسم المغربالإسلامي على نفسه إلى قوى ثلاث تحكمها زعامات ثلاث .. الرستميون في تيهارت (الجزائر ) والأغالبة في تونس ، والأدارسة في المغرب الأقصى .
وليس من السهل تلمس الأسباب الحقيقية لهذا الانفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض شخصية ومذهبية .
بيد أن كثيرا من المؤرخين لا يفوتهم البحث عن أسباب لكل الظواهر ،حتى ولو كانت الظاهرة مجردة حادث مفتعل يخلف نتائج مضادة ويكون حصاده وبالا علىالأمة التي خضعت له .
وليس من شك في أن الحياة ليست سلبا كلها .. وبالتالي ليست إيجابا كلها .. فنحن لن نعدم أن نجد في الدولة الحضارية الجماعية سلبيات ..كذلك لن نعدم أن نجد في كل الحركات الانفصالية التي تمثل ـ في رأينا ـ بوادر غروب للحضارة الجامعة .. لن نعدم أن نجد فيها إيجابيات ، بيد أنه لا السلبيات تصلحللحكم على الدولة الجامعة بالموت وبالانقضاض عليها من داخلها ، ولا الإيجابيات تصلح كمبرر للوجود ..
إذا قيست هذه الإيجابيات الجزئية بما تخلفه حركات الانشقاق منهدم في روح الحضارة ..ومن صراع يجهد الدولة الجامعة والبلد المنفصل معا .
وكان إدريس بن عبد الله بن الحسين هو ( قائد حركة الانفصال عندولة العباسيين في المغرب الأقصى )
وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويين في إشعال ثورة الحجازضد العباسيين ، لكن الثورة فشلت ، وأخمدت فهرب إدريس إلى بلاد المغرب ، وهناك استطاع أن يجمع حوله بعض قبائل البربر ، وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوالي قرنين من الزمان .. وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري .. أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركتي الرستميين في الجزائر والأغالبة في تونس .
وقد نجح الخليفة العباسي هارون الرشيد في أن يدس على إدريس من يدسله السم في العسل ، وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله " إن لله جنودا من عسل "لأنه سمه بواسطة العسل .
وقد ترك إدريس زوجته حاملا فولدت بعد موته ذكرا التف البربر حوله وبايعوه باسم إدريس الثاني . وفي عهد إدريس الثاني هذا حاول العباسيون بواسطة ولاء الأغالبة الموجودين في تونس لهم ، حاولوا القضاء على الأدارسة .. لكنهم فشلوا .. وركن العباسيون إلى السكوت .. واستمرت الدولة الإدريسية ـ كما ذكرنا ـ قرنين من الزمان .
وكان من أعظم حكام الأدارسة يحيى الرابع بن إدريس الذي حكم ثمانيعشرة سنة ( 292 ـ 310 هـ ) وازدهر المغرب الأقصى في حكمه أيما ازدهار .
كما بلغت مدينة فاس عاصمة الأدارسة ذروة مجدها ، وأصبحت مركزا هامامن مراكز الحضارة الإسلامية في أنحاء المغرب العربي . وأيضا قد ساعد الأدارسة على رسوخ قدم الإسلام في بلد المغرب بين البربر ، وانتشر الإسلام بواسطة البربر فيأفريقيا الغربية .
وكانت جامعة القرويين التي قامت بدور بارز في نشر وإنماء الثقافةالإسلامية من أهم آثار الأدارسة في المغرب الإسلامي ، وقد قامت في المغرب بما قامبه الأزهر ـ أو على نحو قريب منه ـ في المشرق العربي .
لقد كان الأدارسة أول دولة لها هذا الطابع في التاريخ وفيما نعتقد لم تكن دولتهم شيعية إلا بمقدار حب آل البيت والولاء لهم .. وهي صفة يشترك فيها السنة والشيعة معا .. فحب آل البيت من حب الرسول عليه الصلاة والسلام ما كانوا قائمين على كتاب الله وسنة رسوله .. أما إذا خالف أحدهم كتاب الله وسنة رسوله... فإنه يقف من الله موقف أي إنسان " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لاأغني عنك من الله شيئا " هكذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام !! .
ولهذا الوضوح في دولة الأدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت بهم ، وكانت القبائل البربرية السنية في المغرب حاميتهم وعماد دولتهم .
ولهذا السبب عاشت دولة الأدارسة نحوا من قرنين من الزمان وأدت دوراحضاريا لا بأس به في المغرب الإسلامي .
بيد أنها كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مبرر الوجود والبقاء ..فظلت على الرغم من " قرنيها " مجرد حركة انفصالية . ولم تستطع ـ لا جغرافيا ولا فكريا ـ أن تزيد على حدودها التي ضمها إدريس الأول شيئا ذا بال .
وقد وقعت كذلك بين عديد من القوى الراغبة في الابتلاع .. وقعتبين الأمويين في الأندلس ، الذين كثيرا ما سددوا إليها الطعنات .. وبين مصرالتي انتقلت إلى الفاطميين منذ سنة 359 هـ .. فوجهوا إلى الأدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة المذهبية ..
ولا يمكن إغفال ضربات القبائل البربرية الراغبة في حكم نفسها ، لاسيما قبائل زناتة وهوارة
وقد أدى ذلك كله على غروب شمس الأدارسة عام 375 هـ .
فانتهت إحدى الحركات الانفصالية في تاريخنا الإسلامي .. لأنالسقوط ـ وإن كثرت المقويات والمساعدات ـ هو مصير كل الحركات الانفصالية .