سقوط دولة الخوارج في الجزائر
منذ خرج " الخوارج " عن طوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،وتسببوا في قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وهم يشكلون على امتداد التاريخالإسلامي المادة الخام لكثير من الحركات الثورية . لقد انتشر الخوارج على امتدادالأرض الإسلامية ولقد دخلوا في عديد من المعارك واجهوا في بعضها تصفية جسدية هائلة.. لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة في الأرض الإسلامية ، وشعارهم قول أحدروادهم " قطري بن الفجاءة " :
فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع
سبيل الموت غاية كـل حـي ** فداعيه لأهل الأرض داع
وبالطبع لم يكن المغرب الإسلامي ، وهو تلك الأرض الإسلامية العذارءليفلت من أيدي الخوارج .
لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسلامية خارجية ينشرونمن خلالها مبادئهم الخارجية .
وقد كان أهم بروز لهم سنة 122 هـ في طنج برئاسة " ميسرة المطغري" ، وقد عرف المغرب من مذاهب الخوارج : الصفرية والإباضية ، وقد انتشرت الصفريةفي الجهات الغربية ، بينما انتشرت الثانية في النواحي الشرقية ، وكانت أكثر القبائلالبربرية ( المغربية ) الموالية للخوارج زناتة وهوارة .
بيد أن حركاتهم ظلت حركات ثورية فوضوية ، لم يقدر لها إلى منتصفالقرن الثاني الهجري أن تنتظم في دولة .. ولذا فمعظم حركاتهم ماتت وكانت تذوبفي بوتقة المجتمعات المنظمة ، لا سيما وقد أصيبت كثير من حركاتهم بما أصيبت بهالحركات التي تقف على الطرف الآخر منهم .. أي أنهم أصيبوا بكثير من المغالاةوالتطرف ، والميل إلى نزعة التكفير وإراقة الدماء والقتل لأوهى الأسباب .
لكن مع بروز سنة 144 هجرية بدا وكأن الخوارج يستمتعون بإقامة دولة مستقرة لهم بالمغرب .
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم الإباضي عبر سلسلة من المغامرات والتعرضللموت غير مرة ، والتحايل على جذب القبائل البربرية . نجح في إقامة دولة خارجيةتعتمد على البربر وعلى العرب والعجم وتتمركز في مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراءالجزائرية أكثر من مائتي كيلو متر ، وتقع في منطقة النجود ، وتتبوأ مكانا جيدايحميها من الإغارات ، ويحميها كذلك من الشمس التي لا تكاد تظهر في سمائها (!!) وهي مدينة " تاهرت " .
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم هذا في توطيد دعائم دولته خلال الفترةالتي قدر له أن يحكمها ( 144 ـ 168 هـ ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذيبقي في حكم الدولة التي تنسب إلى أبيه " الدولة الرستمية " عشرين سنة .. ثم" أفلح ابن عبد الوهاب " الذي عمر أطول مدة عمرها حاكم رستمي ، فقد بقي فيالحكم أكثر من خمسين سنة ( 188 ـ 238 هـ ) ، ثم تتابع في حكم الدولة الرستميةخمسة من الأمراء ( أبو بكر بن أفلح ..
فأبو اليقظان ، فأبو حاتم ، فيعقوب بنأفلح ، فاليقظان ابن أبي اليقظان آخر أمرائهم ) والذي لم يتمتع بالحكم أكثر منعامين عاشهما في اضطراب ، ثم غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه في شوال سنة 296للهجرة ، وانتهت به الدولة الرستمية التي حكمت جزءا كبيرا من أرض الجزائر "تيهارت وما حولها " قرنا ونصف قرن من الزمان ( 144 ـ 296 هـ ) ( وكانظهورها الذي دعمه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي أبرز مثل لبروز دولة خارجية ) .
إن الخوارج الذين اشتهروا بالحمية والتفاني في سبيل المبدأ ، قدتحولوا في ظل دولتهم الرستمية إلى رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة .
وقد عاشت طوائف كثيرة مختلفة النزعة في ظل دولتهم الرستمية حياةرغدة طيبة سهلة .. وبعد أن كان الخوارج أرباب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبوبكر بن أفلح ، وقد رضوا بسلم يمكن لهم البقاء في حدود ما حول تاهرت ، عقدوه معجيرانهم الأغالبة والأدارسة .
وجلي أن الذي لا يتقدم يكون عرضة للتأخر .. وهكذا تأخرالرستميون بعد أن فقدوا روحهم النضالية .. ودعنا من انحرافات كثيرة منهم لدرجةالمغالاة والتطرف .. ودعنا كذلك من سذاجة آخر ملوكهم " اليقظان " واضطرابالملك في يديه .
لقد عمل ذلك عمله في سقوط الدولة الرستمية .. كما عمل في سقوطهاكذلك أخطر قانون من قوانين الحضارة .. وهو أن الدولة التي تفتقد راية حضاريةجديرة بالانتشار والبقاء .. دولة جديرة بالانحسار والفناء .