:: الأقصى ::
بقلم : بسّام جرار
لو سألت الياباني: أين تقع أمريكا بالنسبة لليابان؟ يغلب أن يكون الجواب: هي في الغرب. وخطأ هذه الإجابة واضح، لان أمريكا تقع شرق اليابان، لذا يسافر الياباني شرقاً ليصل إلى أمريكا، لأن طريق الغرب طويلة جداً. وعلى الرُّغم من ذلك فانّ الياباني يتعامل على أساس أنّ أمريكا هي غرب، وذلك لأن أمريكا تقع إلى الغرب من خط غرينتش، خط التأريخ الدولي، الذي اصطلح عليه عندما كانت بريطانيا دولة عظمى، وكان الشرق كله يعاني من التخلف والأميّة، وكانت بريطانيا في مركز القيادة العالمي. واليوم لا زال الغرب هو القائد والمسيطر، ولا يُتوقع أن يُغيّر العالم من اصطلاحات الغرب حتى تتغير موازين القوى، وحتى يتغيّر مركز الثقل على هذه الأرض.
من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تتميز الأمة لتكون القدوة للبشرية، ولتتمكن من التأثير، من أجل التغيير الإيجابي، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ويظهر هذا التميّز في أمور كثيرة، ومنها التميّز في المصطلحات. وقد سادت المصطلحات الإسلاميّة في العصور الذهبيّة للدولة الإسلاميّة وتعدّت حدود هذه الدولة. ولكن في الوقت الذي فقد فيه العالم الإسلامي مركز الصدارة تراجعت مصطلحاته، ولم تعد مستعملة من قبل الآخرين، بل لم يعد العالم الإسلامي يعتز بما لديه من مصطلحات، لأنه أصبح تابعاً ومقلداً. ويبدو أنّ هذه نتيجة حتمية للتخلف الذي أصاب المسلمين على مدى قرون من الزمن. في المقابل نجد أنّ العودة إلى الذات في العقود الأخيرة أحيت الكثير من المصطلحات، فعاد المسلم يعتز بذاته الحضاريّة بعد أن كان مسلوب الإرادة أمام بريق الآخرين.
عندما نزل قوله تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى …" كانت مراكز القوى تتمثل في بلاد فارس، وبلاد الرومان. ولا شك أنّ مسجد بيت المقدس كان أقرب إلى بلاد الرومان من المسجد الحرام، إلا أنّ القرآن اعتبره المسجد الأقصى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ مكة المكرّمة هي المقياس المرجع، الذي يجب أن نقيس عليه، وأن نرجع عند القياس إليه. ومعلوم أنّ المساجد التي تشدّ إليها الرحال في الدين الإسلامي هي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، الذي يقع بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وقد ذكر بعض العلماء أنّ تسمية مسجد بيت المقدس بالمسجد الأقصى فيه إشارة إلى أنّ المسجد النبوي سيُبنى، على اعتبار أنّ ذكر الأقصى يُشير إلى القصيّ، كما تشير كلمة الأبعد إلى البعيد. أي أنّ هذه التسمية الربّانيّة تتضمن خبراً غيبياً.
إذا فُهم هذا سيكون من السهل علينا أن نفهم عبارة: " أدنى الأرض " في قوله تعالى من سورة الروم: " غُلبت الرومُ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين…"؛ فقد كانت هزيمة الروم في أدنى الأرض، هذا بالنسبة إلى جزيرة العرب؛ حيث كانت بلاد الروم مترامية الأطراف شاسعة المساحات، إلا أنّ هزيمتها المشار إليها كانت في بلاد الشام، أي في أدنى الأراضي التي يسيطر عليها الرومان بالنسبة إلى جزيرة العرب. بهذا يتّضح أنّ القرآن الكريم يجعل من مكة، وما يحيط بها من جزيرة العرب، المكان الذي يرجع إليه، أي هو المكان الذي يجب أن تكون له المركزية في فكر المسلم، وضميره، وحِسِّه، وواقعه، ومصطلحاته. وعلى أية حال لا يكون هذا واقعاً حتى تتغير أمور كثيرة.والمراقب للتطورات الفكرية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي يلاحظ المؤشرات الكثيرة التي تُعلن عن عودة الأمّة إلى ذاتها وحضارتها.