:: التقويـم ::
بقلم: بسام جرار
قال تعالى في سورة التين: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ". قالوا في التقويم: إنّه جَعلُ الشيء ذا قوام. وقوام الشيء: ما يقوم به ويثبت. وتُصرّح الآية الكريمة بأنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويذهب بعض أهل التفسير إلى أنّ المقصود هنا القوام الجسدي، وهذا بعيد عن سياق النص القرآني، وإن كان اللفظ يحتمله. والراجح أنّ المقصود هنا هو تعديل القوى الظاهرة والباطنة معا، أي المادّية والمعنويّة، وعلى وجه الخصوص القوى المعنوية، من مثل العقل والإدراك.
واضح من الآية الكريمة أنّ تقويم الإنسان خاص به، وهو يتميّز في ذلك عن باقي الكائنات، كيف لا، والله قد سخّر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض. وقد يستشكل البعض قوله تعالى: " في أحسن تقويم ". إذ على المستوى المادي يمكن أن يكون الإنسان أشدّ تحصيناً من الأمراض الجسدية، وعلى المستوى المعنوي محفوظاً من الأمراض النفسية، وبذلك يكون في تقويم أحسن. ويزول الإشكال عندما ندرك أنّ " أحسن" تتعلق بخلق الإنسان على ضوء وظيفته في الأرض. ومن هنا لا يلزم مثلاً أن يكون قوام الإنسان يؤدّي به إلى الخلود في الدنيا، لأنّ هذا ما سيكون في الآخرة. وقد جاء في الأثر: " خُلقت الدنيا لكم وخلقتم للآخرة ". وهذا من بدهيّات الدين.
الأصل في الإنسان الخير والعدالة، وأمّا الشّر فهو طارئ على الكيان الإنساني؛ ففي الوقت الذي خلق فيه الإنسان في أحسن تقويم، بحيث يحقق وظيفته في الأرض، خلق فيه أيضاً قابلية الانتكاس والارتكاس، والارتداد إلى الأسوأ: " ثم رددناهُ أسفلَ سافلين ". وهذا يعني أنّ التقويم المعنوي المنسجم مع وظيفة الإنسان في الأرض يمكن أن يتحول إلى النقيض. وحتى لا يكون هذا الارتداد، لا بد من العمل الصالح، القائم على أساس من الإيمان الصحيح: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. ". فكل مولود يولد على الفطرة، أي في أحسن تقويم. ويمكن المحافظة على هذه الفطرة وتوظيفها في تحقيق الخلافة في الأرض، إذا ما كانت التربية تستند إلى الإيمان الداعي إلى العمل الصالح. ومن هنا ندرك أنّ الدين ضرورة بشرية، وليس بخيار يُضاف إلى خيارات الإنسان.
هل استطاع العلم في القرن الحادي والعشرين أن يخلق في الأمم الغربية الإنسان الصالح، الذي يقوم بواجب الخلافة ؟! والإجابة نجدها واضحة في واقع البشرية اليوم، فنكتشف أنّ الظلم والتجبّر، والغطرسة والفجور، هي من أهم مميزات الدول التي تقع في أعلى سُلّم العلم والتكنولوجيا. إنّه إفلاس الغني، وضعف القوي. إنّه العلو الذي هو في حقيقته أسفل سافلين. وتبقى مشيئة الله تعالى فوق الجميع: " فأمّا الزبد فيذهب جفاء، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض ". ولا ينفع الناس إلا ما كان ينسجم مع فطرتهم السّوية.
إنّ مهمة المصلحين تستند إلى فطرة الإنسان، ومن هنا تكون احتمالات النجاح كبيرة، وهذا ما نلحظه اليوم من سقوط الكثير من الطروحات المتناقضة مع الفطرة، حيث أنه لم يكد يغادرنا القرن العشرون إلا وقد أخذ معه الكثير من العقائد والأفكار والأوهام، وظهر ذلك جليا في البيئات الاجتماعية التي ظهر فيها مصلحون. ولا نزعم أبدا أنّ الصورة الآن جميلة ومشرقة بما فيه الكفاية، ولكن مسار الأمور يشير إلى أنّ الخلاص هو مستقبل الإنسان في المدى غير البعيد.
والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.