الواجب في مكافأة الراسب!
في هذا الوقت وكل وقت أتذكر جدتي، تلك الحكيمة التي غاب جسدها وبقي صدقها، وهي التي كانت تسابق الزمان وتدهش المكان بغرابة تصرفاتها، وعمق تناولاتها. ومن غريب تصرفاتها أنها حين ظهور نتائج الامتحانات، كانت تبحث عن الراسبين من أبناء الأسرة، وتمنحهم الهدايا وتوزع عليهم الحلوى، وتهمل الناجحين والمتفوقين مبررة ذلك بقولها: «إن الناجح اجتاز الطريق، وحقق الهدف، وليس بحاجة إلى دعم، في حين أن الراسب هو من يستحق التشجيع والمساندة، ويكفي هذا من حكمتها!».
لقد كانت جدتي عميقة في وعيها، عندما حاولت أن تعدل من انحراف مقولة:The Winner» Takes It All- المنتصر يأخذ الكل»، إنها فقط عدلت –حسب قدرتها- اتجاه الحلوى، وحولته من المنتصر إلى المهزوم!
كانت الساعة العاشرة مساء. إنه موعد اللقاء بين البياض والحبر. لم أحمل في ذاكرتي إلا بقايا من أحاديث جدتي التي كانت تعطي الليل لونًا وتشويقا بـ«حكاياتها الحزينة». و«المعرفة والحكمة» أحيانًا! كانت تقول: إن الأمل «نافذة الأيام» التي تفتح فرصة في نافذة زحمة العمر الحزين، والحياة مسلسل للهزائم والجراح منذ صرخة الولادة حتى بكاء الموت، وما بينهما من ضحك وبكاء!
لم ولن أنسى تلك اللحظة الحاضرة. عندما رأيت جبالاً تحمل أطفالاً بثيابهم البريئة، وهم يتصورون أن الأشياء صغيرة من حولهم، ولكنهم نسوا أنهم هم أيضًا صغار بعين الأشياء التي من حولهم!، أحمل في دفتري الصغير المهجور كلمات لعلّي كبرت عنها، أو هي صغرت عني. لا فرق؛ فالحياة لا تقف عند حدود الوهم والمحبة، والشمس ترسل خيوطها صباحًا؛ لتمنح الأشياء ضوءًا جديدًا؛ يشير إلى أن الرحيل والسفر قادمان حسب توقيت الإرادة والحزن.. لقد أدركت أن السفر في ذاكرة الإنسان انقلاب مكاني، لا يعرف التفسير؛ لأنه يجعل المسافة تضيع هباءً منثورًا في ذهن صاحبها. هكذا فهمت الرحيل منذ فارقت مدرستي الابتدائية، التي كنت أظن أني وإياها لن نفترق مدى الحياة..!
من جدتي تعلمت أن الزواج الأول قضاء وقدر، والزواج الثاني مصيبة، كما تعلمت أن الزواج أسهل الشرين وأهون الضررين، فقد قالت لي: يا بني إن شئت تزوج، وإن شئت لا تفعل، فأنت في كلتا الحالتين نادم، وفي الحزن هائم..!
ومنها أيضًا تعلمت أن الحياة صناعة، والابتسامة إرادة، والأمل موهبة، مع أن كل هذه الأشياء لابد أن يصنعها المرء لنفسه، فحياتي من صنع يدي، وابتسامتي بإرادتي، وأملي ألا تنضب مواهبي، وإلا فسيطويني الزمان، ويلتهمني النسيان، ويغادرني المكان، ويضيق بي الثقلان..!
ومنها تعلمت مثلما تعلمت من الفيلسوف آينشتاين، فهما يقولان: «إن التخيل أهم من المعرفة، لأن الإنسان قد يستفيد من التخيل، ولكنه قد لا يستفيد من المعرفة».. كما تعلمت أن الأمل إذا مات، مات صاحبه؛ ليكون الإنسان في النهاية هو عبارة عن أمل يخفيه عمل، وعمل يخفيه أجل..! حسنًا.. ماذا بقي..؟!
بقي القول: هذه قناعات لست أدري من أين جاءت إليّ، ولكني أفكر في جدتي دائمًا، وهذا يكفي..!
كما أنني أفكر بالبلوى، أحاول أن أرى البراءة في قدومها عليّ، واختيارها إياي، أرى براءتها عند شاعرهم أبي تمام:
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظُمت***ويبتلي الله بعض القوم بالنعم!
استلهمت البراءة، وعرفت طقوسها، وتذكرت على الفور قول جدتي: «النعمة استدراج». فاحذر أن تغص بالماء أيها الولد الشقي الذي يعشق الشقاء..!