رؤية تاريخ العالم بطريقة أخرى
يبدو تاريخ العالم للكثيرين، وكأنه يدور حول القطب الأوروبي، ذلك أن الأوروبيين هم الذين شرعوا، كما يقول المؤرخون، في دفع المسار الإنساني باتجاه «العولمة». من خلال «الاكتشافات الكبرى» التي وصلوا إليها، ثم عبر حركة التوسع الاستعماري التي قادوها كي يسيطروا من خلالها، على الجزء الأكبر من العالم. واستطاعوا نتيجة ذلك كله، فرض «رؤية للعالم» تقوم على مفهومهم للتاريخ.
حيث ساعدتهم مفاهيمهم والأدوات الجغرافية، من خرائط وغيرها، على تثبيت تلك الرؤية. ولكن الأمور تغيّرت اليوم، مع بروز «جغرافية جديدة» للعالم، فلم تعد أوروبا هي مركزها الموجّه، بل لم يعد الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، القطب الذي تدور حوله مناطق العالم الأخرى. هذا ما يؤكده دارسون وباحثون كثر، ومن بين هؤلاء أستاذ الجغرافية التاريخية في جامعة «ديدرو» في العاصمة الفرنسية باريس، والذي يتساءل في عنوان كتاب صدر له، أخيراً، وهو: «هل تنبغي رؤية تاريخ العالم بطريقة أخرى؟».
ويبدأ تحليلاته بتساؤل آخر، مفاده: كيف ينبغي كتابة تاريخ العالم، كما يفرض التداخل الكبير والمعمم بين المجتمعات البشرية؟ الحجة البسيطة للقول بضرورة إعادة النظر في «النسخة» السائدة لتاريخ العالم تقوم على أساس أن «الجغرافية الجديدة» تتطلّب بالضرورة «تاريخاً جديداً». ثم إن زمن السيطرة الأوروبية في مجال صياغة الرؤية «التاريخية للعالم» قد ولّى ومضى.
هذا ما تؤكده أيضاً التيارات التي تعمل في إطار ما يسمى بـ«التاريخ الشامل» وتيارات «الدراسات ما بعد الاستعمارية». والتأكيد منذ البداية أيضاً، أنه لا يكفي لكتابة تاريخ جديد للعالم الانطلاق من القول بضرورة «نزع السمة المركزية الأوروبية» للتاريخ التقليدي السائد.
ولا يكفي اللجوء إلى «تفضيل» الجنوب على الشمال أو الشرق على الغرب، بل تقتضي الضرورة قبل كل شيء، الأخذ بمبدأ أن التاريخ «متعدد الأقطاب»، مثلما أن المجال الجغرافي العالمي «متعدد الأقطاب» هو الآخر. ومن هنا بالتحديد يبدأ، حسب رأي المؤلف، الشروع بكتابة «التاريخ الحقيقي» للعالم الذي نعيش فيه.
التغيّر في النظرة إلى تاريخ العالم، يحدده مؤلف الكتاب زمنياً، منذ عقدين فقط من الزمن، وبالتحديد مع ظهور حالة من التشكيك بتفوّق الغرب بجناحيه، المتمثلين بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وذلك بالتزامن مع بروز أقطاب عالمية جديدة، ليس أقلها شأناً الصين والهند والبرازيل.
ومن هنا يرى المؤلف ضرورة إيجاد «إطار جديد» للتحليل التاريخي، لا يكون محكوماً بمقتضيات التاريخ الغربي، كما يرويه ويتلقاه الغربيون. وأيضاً مؤطراً باعتبارات الواقع الجغرافي العالمي وتقسيماته والعلاقات القائمة بين مختلف مناطقه وبحالاته الجغرافية، أو ما يسميه المؤلف باختصار «جغرافية التاريخ»، وهذا المفهوم يعود، كما يقول المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل، في كتابه التشهير: «البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فيليب الثاني».
يعود المؤلف إلى تحليل السياق التاريخي، الذي جرت فيه صياغة تاريخ العالم، حسب الرؤية الغربية: «ذلك تحديداً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي إلى الفترة التي أعطت فيها الثورة الصناعية (الأوروبية) الكبرى، ثمارها على صعيد التوسع الجغرافي الاستعماري، وأيضاً الفترة التي عرفت بناء (النموذج الوطني) ذا الطابع (التوحيدي) و(الحصري).
والذي يسمح بكتابة تاريخ خاص بمجال جغرافي محدد». وبالتوازي مع ذلك يؤكد المؤلف أن أوروبا لم تحدد فقط (المحتوى التاريخي) للعالم، ولكنها قامت أيضاً بتقسيم هذا التاريخ إلى عدة مراحل تاريخية، تتمثل في الحقبة القديمة، ثم العصور الوسطى والتاريخ الحديث والمعاصر.
مثل هذا التقسيم يتماشى بالتحديد مع تاريخ القارة الأوروبية نفسها، وبالتالي ليس هناك ما يثير الدهشة في أن بقية مناطق العالم لا تظهر على المسرح التاريخي إلا من خلال الرؤية الأوروبية، كما يشير المؤلف. وهكذا أيضاً يمكن الحديث عن «اختراع القارّات». وبالمقابل تبنّي أطر أخرى تتماشى مع الرؤية الشاملة للعالم، التي هي أكثر تأقلماً مع مفهوم «العولمة». ومع الوقائع التي يحددها التاريخ الاقتصادي لمختلف الأقطاب التي ساهمت في صناعة التاريخ الإنساني.
ومما يلفت المؤلف الانتباه إليه بأشكال مختلفة، هو أن التقسيم الأوروبي والغربي عامة للتاريخ، على أساس عدة حقب متتالية، يتماشى مع معايير التخلّف والتحضّر والتقدّم. وهكذا مثلًا يتردد القول حيال مجموعة من الأنظمة السياسية، على أنها تنتمي إلى العصور الوسطى، الأمر الذي يعني أنها متخلّفة عن ركب الحداثة، أي عن «النموذج ـ الموديل ـ الغربي».
والمطلوب، كما تقول التحليلات، محاولة «إدراك منطق الأماكن». وذلك بمعنى أن الخصوصيات الجغرافية تنتج نماذج تاريخية. وكذلك تاريخ «العوالم» المتنوعة ورؤية مجتمعاتها للعالم، ساهمت مجتمعة في صياغة «التاريخ الشامل» الذي تمثله العولمة. وبهذا المعنى ساهمت «الحقب القديمة» في صياغة ما هو قائم اليوم، أي صياغة «العالم» بالمعنى الشامل، الذي «لم يكن موجوداً باستمرار». كما نقرأ.
وبعد أن يؤكد المؤلف بطرق مختلفة ضرورة «كتابة تاريخ العالم بطريقة أخرى». يحرص على عدم تقديم أي برنامج، بالمعنى الدقيق للكلمة. كما يركز على ضرورة النظر لتاريخ العالم بقدر كبير من الجديّة، بمعنى «النظر بجدية إلى تاريخ الآخرين». وبالتالي «الخروج» من النموذج الأحادي في رؤية التاريخ، وأخذ التراث المشترك للإنسانية كلها في الاعتبار، عند التفكير بالتاريخ. والإرث المشترك، ليس كعملية جمع وإضافات، ولكن كـ«أفعال متداخلة».
باختصار؛ المطلوب كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب، هو كتابة تاريخ العالم وليس كتابة تاريخ أوروبي للعالم.
الكتاب: رؤية تاريخ العالم بطريقة أخرى
تأليف: كــــريستيــــــــان غراتالوب
الناشر: آرمـــان كولان، باريس، 2011
الصفحات: 216 صفحة
القطع: المتوسط
Faut-il penser autrement lصhistoire du monde
Christian Grataloup
Armand Colin - Paris- 2011
216 .p