اربد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اربد

منتدى معلومات عامة
 
صفحة الاعلاناتالمنشوراتالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر

 

 شرفة العار

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
????
زائر
avatar



شرفة العار Empty
مُساهمةموضوع: شرفة العار   شرفة العار Icon-new-badge8/3/2010, 15:04

فصول من رواية جديدة للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله

جريمة شرف؟!!

الجريمة بلا شرف دائما

1

بفرح شديد كانت منار تبتسم وتبكي وهي تراه يتقدَّم فوق كرسيّه المتحرِّك صوب الغرفة الصغيرة.

النساء والأغاني تفتح له الطريق، ودمعته مُعلَّقة بطرف ابتسامته.

وصل العتبة، أوقف الكرسي، واتكأ على حلق الباب محاولا الوقوف، امتدت يد امرأته نحوه لتساعده، لكنّه أبعدها برفق وهو ينظر إليها ويهزّ رأسه بحنان.

في ذلك اليوم رقص أمامها كصبيٍّ صغير غير مُصدِّق أيّ هِبةٍ تلك التي منحه الله إياها بعد هذا العمر الطويل؛ غير مصدِّق جسده، جسده الذي استجاب له بصورة لم يكن يتخيَّلها. وكلما همَّ بأن يتوقّف استجابة لإلحاح زوجته أمّ الأمين وزوجة ابنه نبيلة، اندفع في الرّقص أكثر وهو يرى ذلك الكرسيّ المتحرك يحدّق فيه وينتظره باسطًا ذراعيه المعدنيَّتين الباردتين أمام الباب.

بفستان عرس أبيض جلست على الّلوج، وبدا أن الزّهور البلاستيكية المحيطة بها قد امتلأت بالحياة فجأة؛ أما أمّها، فكانت تتطاير في فضاء الغرفة الضيِّق كفراشة، ولم يعد البيت سوى حقل نور.

صوت عبدالحليم حافظ، لم يكن جميلا هكذا في أيّ يوم مضى، وبدا أن والدها أبو الأمين، لم يسمعه من قبل وهو يردد تلك الأغنية كمن يغنّي للمرّة الأولى في حياته:

وحياة قلبي وأفراحه

وهناه بمساه وصباحه

ما لقيت فرحان في الدنيا

زي الفرحان بنجاحه

***

أبو الأمين، كان على حق، حين رفض، بتصميم، تزويجها لأول طالب قُرْب؛ ظلَّ يردد: "البنت صغيرة"! حتى كرهه أخوته الخمسة الذين كانوا يرون في مَنَار الفتاة الأجمل والأكثر أدبًا اللائقة بأولادهم.

سالم شقيقه الأكبر، قال له: "عنادك هذا سيوصلك إلى نتيجة لا تُحمَدُ عقباها"! لكن أبو الأمين أصرّ: "هذه البنت ستتعلم، وستنجح، وسأرفع رأسي بها"!

"من لا يرفع رأسه بأولاده لن يستطيع أن يرفعها ببناته"! ردّ سالم.

"هذه ليست أي بنت، هذه ابنتي"!

"مبروكة عليك، فالبنات على قفا من يشيل"! قال سالم، قبل أن يغادر البيت.

لم يأت سالم لتهنئة أخيه، لكن امرأته حضرت، بل ورقصت، وهي تنظر لمنار بثوبها الأبيض بحسرة، كما لو أنها تقول: "ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن ابننا انتظر هذه اللحظة ليتقدّم إليها؟ ألا تستحق فتاة كهذه أن ينتظرها، واحد مثله، العمر كلّه"؟

كانت زوجة سالم أطيب من أن تحقد، بل وبدت في لحظات كثيرة، وهي تتأمّل أبو الأمين بأعوامه الستين يرقص خارج قدميه الثقيلتين وعموده الفقريّ الذي أنهكته سيارة التاكسي على مدى سنوات وسنوات، بأنها معه أكثر ممّا هي مع زوجها؛ أبو الأمين الذي ظلَّ يعمل ليل نهار حتى استطاع أن يوفّر لها كل ما تحتاجه من أجل أن تكمل تعليمها.

... وصدق وعدَه: "سأزّفكِ كعروس، وأرقص يوم نجاحك على رموش عيني لو لم أستطع الرّقص على قدميّ"!

***

هدأ الليل فجأة، تقدّمت أم الأمين ورفعتْ ساقَ زوجها المتدلّية أمام السرير. كانت مسحة حزن تظللّ وجهه، مسحة لم تستطع الظلْمة إخفاءها، وعندها سمعتْه يقول: "أترين، ها قد عدتُ إلى عموديَ الفقريّ المتآكل من جديد؛ تعرفين، ما كان عليّ أن أتوقّف أبدًا عن الرّقص"!

2

إلى بوابة الجامعة، كان يصرُّ أبو الأمين على أن يوصلها، وأن يراها تدخل البوابة الواسعة الكبيرة. عند ذلك كان يتنفس ملء صدره، يتابعها وهي تبتعد وسط موجة الفتيات والشباب.

مرات كثيرة حرمته صافرةُ شرطي المرور من هذا، فلم تكن هناك ثمة بقعة أكثر ازدحامًا في الصباح، مثل تلك المساحة الضيقة أمام تلك البوابة.

"بدل أن تدخل هذا الازدحام، يمكن أن تُنزلني هنا، في الشارع الرئيسي، وليس عليَّ سوى أن أقطع الشّارع الصغير أمام البوابة".

"مستحيل"، كان يقول لها، "ألا ترين جنون السائقين في ساعة كهذه"؟

كانت منار تصمت، تودِّعه بابتسامة واسعة، وتترجّل، من دون أن تفكر في نظرة زملائها وزميلاتها إليها، وهم يحدّقون كلّ صباح بابنة سائق التاكسي.

***

في نهاية السنة الثالثة، تغيّر كلُّ شيء فجأة، إذ لم يعد أبو الأمين قادرًا على إيصال ابنته. راحت قامته تتلوّى ألما، كلّما هَمَّ بصعود السيارة أو التَّرجل منها؛ وفي النهاية، لم يعد باب السيارة قادرًا على إسناد قامته. ولذا، كان لا بدّ من أن يأتي ذلك اليوم الذي سيصيح فيه أمام الباب: "أم الأمين"! وحين أطلت، ورأت قدميه على الأرض، ويده ترتجف أعلى باب السيارة، ومؤخرته كما لو أنها التصقتْ بكرسيها، أدركتْ أن اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت.

حاولت أن تسنده، لكن وزنه تضاعف مع عموده الفقري المعطوب.

بألم قال لها: "ألا يوجد أحد من الأولاد في الدّاخل"؟ أجابت:"لا" وهي تتلفَّت حولها باحثة عمّن يساعدها، ثم صاحت: "نبيلة، يا نبيلة"!

***

في الغرفة الصغيرة الضيّقة، راح يحدِّق في السقف، كان يدرك أن الدّمعة مستقرّة هناك في عينه اليمنى، وأنها على وشك الانفجار، حبس أنفاسه، حاول أن يفكِّر في أيّ شيء، إلاّ أنه لم يستطع أن يبعد وجه مَنَار عن مخيّلته، كانت أمامه، بقميصها الأبيض وبنطالها الجينز، قابضة على رزمة من دفاترها وكتبها تنتظر قدومه أمام تلك البوابة الواسعة.

حين اطمأن إلى أن الدّمعة لن تفضحه، قال لامرأته: "لا أدري كيف يمكن أن تتدبَّر أمورها إذا ما ساء وضعيَ أكثر"!

"أولًا لا تفاول على نفسك، لا بدَّ أنها حالة عارضة، أيام، ثم تزول"!

لكنه كان يعرف أن الأمر ليس كذلك؛ لأنه أخفى على الجميع ما به.

" لم أكن أريد أكثر من أن أتمّ السنة الرَّابعة، وأتخرج من هذه المهنة، أن نستلم شهادات تخرّجنا في اليوم نفسه، أن أوصِلها إلى البيت لآخر مرّة، وأن أقول لها: ها أنتِ كبرتِ بما يكفي لأن تستقلّي سيارة تاكسي أو حافلة أو حتى طائرة؛ طائرة، ولمَ لا"!

***

أبو الأمين كان أعدَّ العدّة لذلك اليوم، طلبَ من أمين، أن يبدأ بتلقي دروس في قيادة السيّارات، بعد أن وجده مطرودًا من عمله؛ وحين اعترض أمين لأن السيارة نفسها لن تعيش أكثر من عام أو عامين. أصرَّ والده: "ستأخذ رخصة، يعني ستأخذ رخصة، لا أريد نقاشًا في الموضوع، على الأقل سيكون عملك سائقًا، أفضل لك بكثير من عملك في أيّ محطة وقود؛ لأنه إن حدث وعدتَ لذلك العمل، ستعيش كل ما عشته أنا في مصنع الاسمنت ذاك: صدر لا يعبره الهواء ولا السّيف، بعد أن تحوّل إلى كتلة خرسانية؛ لفرط ما استنشق من ذلك الغبار الرّماديّ القاتل"!

"ولكن من أين لنا بمصاريف تعلُّم قيادة السيارات"؟

" هذه اتركها عليّ، رغم ما فيها من مجازفة. سأعلّمك القيادة، في الصباح باكرًا، أو في الليل؛ سنختار مكانًا نائيًا؛ أعرف شارعًا جانبيًّا قرب المطار، سآخذك إلى هناك وأعلِّمك".

***

بصعوبة استطاع أمين الحصول على رخصة قيادة سيارة خصوصية، وبدا أمرُ حصوله على رخصة قيادة سيارة عمومية، أمرًا مستحيلًا؛ لأن عليه أن يعرف الكثير قبل أن يتمكّن من ذلك، ثم إن عليه أن يعرف المدينة أيضًا، المدينة التي لم يعد يحيط باتساعها الطيرُ لفرط ما ترامت أطرافها في الجهات الأربع.

***

"لو أن ابنكِ طاوعني، وبذل جهدًا كافيًا لحصل على الرّخصة التي نريدها منذ أشهر، وكانت البنت وجدتْ من يوصِلها إلى الجامعة ويعود بها"!

"عدنا للتفكير في البنت من جديد! يا رجل، ابنتكَ كبرت، وهي عاقلة، ولا يُخشى عليها"!

"أعرف ذلك، ولكن، هناك أيضًا الحرّ والمطر والأيام الثلجية، والبهدلة في مواقف الحافلات العامة، وفتاة رقيقة مثلها لن تحتمل ذلك كلّه! فهمتِ" ؟

هزّت أم الأمين رأسها وخرجت مسرعة. كانت هناك دمعتان تتفلّتان من عينيها، لا تريده أن يلمحهما.

3

لا ينكر أبو الأمين، أن مولِدَ منار كان أجمل يوم من أيام حياته، إذ كان يحسُّ أن البيت الذي لا توجد فيه فتاة هو بيت فارغ لا معنى له، لا يمكن أن تنبتَ فيه شتْلةُ ريحان أو شتْلة نعناع أو يتفقَّده الله برحمته!

لكن أم الأمين، عانت الكثير من أجل إنجاب ولدها الثاني عبد الرؤوف، فلسبب لا يعرفه إلا الله، باتت على قناعة من أن أمين سيكون ولدها الأول والأخير؛ هي التي أضناها ترديد زوجها لتلك الجملة الحارقة: "لن يمرَّ وقت طويل قبل أن أتحوّل إلى عمود إسمنت"!

هذا الهاجس كان يقلقه، فكم مرّة رأى نفسه في طريقه لعمله عمودًا يسند بناية جديدة، وحين كان ينظر للأعمدة الأخرى كان يجد رفاقه في العمل، يؤدون الدَّور ذاته.

في الطريق إلى ذلك المصنع، كان ينفض رأسه، يحدِّق في وجوههم، يبتسم بمرارة، من دون أن يستطيع أيّ منهم إيجاد معنى لابتسامة كتلك.

***

بعد ثلاث سنوات عجاف أطلَّ عبد الرّؤوف، ولم تكن فرحته به أقل من فرحته بولده الأول، لكنه وهو يحمل صغيره، نظر إلى امرأته وقال: "إذا كان الله يحبني فعلا، فسيرزقني ببنت"!

ردت زوجته: "بنت"؟!

"الّلي ما له بنت ما له بَخْت"! قال لها.

ولم تفعل أم الأمين أكثر من أن تهزّ رأسها مخافة أن تفسد اللحظة بنقاش لا معنى له.

***

وجاءت منار.

قال لزوجته: "إذا بذلتِ قليلا من الجهد فستأتيننا ببنت أخرى"!

شهقتْ أم الأمين: "بنت أخرى؟! ألا تكفيكَ واحدة"؟

"صدِّقيني، اثنتان ستغيران حياتنا، و (من له ابنتان حياته سعادة وأمان)"!

"ومن أين أتيتَ بهذا المثل الذي لم أسمع به من قبل"؟!

"صحيح أنك لم تسمعي بهذا المثل، ولكني متأكد أنه موجود"!

اكتفت أم الأمين بابتسامة صغيرة، وقبل أن تُلملم شفتيها أنجبتْ آخرَ العنقود: أنور.

4

حين رأت منار النجوم في السماء، قالت: "أريد نجمة"!

قال لها أبو الأمين، وقد أجلسها على ركبتيه: "النجمة بعيدة".

قالت له: "نركض إليها بسرعة... بسرعة"!

فقال لها: "لكنها عالية، لن نستطيع".

فقالت: "نصعد على الكرسي ونأخذها"!

فقال: "الكرسي لا يكفي".

فالتفتت إلى برميل في زاوية الحوش، وقالت: "نصعد على البرميل"!

فقال: "إنها أعلى".

"إلى السطح"!

"إنها أعلى".

"نضع البرميل فوق السطح"!

"إنها أعلى بكثير".

كان فرِحًا بها، بابتسامتها الصغيرة القادرة على أن تمحو شقاء أسبوع بأكمله.

على وشك البكاء كانت، لكن عينيها التمعتا فجأة بفرح عظيم، حدّقتْ في وجه أبيها، وقالت: "عندي فِكرة"!

"وما هي أيتها المُفكِّرة؟"

قالت: "أصنع جناحين وأطير"!

"فِكرة معقولة"! قال لها بفرح، وأضاف: "اصنعي جناحين إذن. هل تريدين مساعدة"؟!

"لا"، قالت له بثقة أدهشته، ثم قفزت عن ركبتيه، وراحت تحرِّك ذراعيها بتسارع، إلى أن أحسّتْ بأنهما تحوّلا إلى جناحين.

سألها: "مستعدَّة لأن تطيري"؟!

فأجابت: "نعم، ولكن شَلِّحني الكُنْدَرة"!

5

كان الحرم الجامعيّ جنَّتها، وإن كانت لم ترَ شجرةَ تفاح واحدة فيه بين آلاف الأشجار التي تظلّل الممرات والأبنية، إلا أنها استطاعت بعد عامين أن ترى آدمها!

لم تره مصادفة؛ كان زميلها في عدّة محاضرات، تقاطع تخصصاهما فيها؛ كان يدرس علم النفس وكانت تدرس علم الاجتماع.

في البداية، كانت تركض من قاعة إلى قاعة، كما لو أن قطار الليل الأخير سيفوتها، ويتركها في مدينة لا تعرف من سكانها أحدًا. كانت بحاجة لعام ونصف العام كي تلتقط أنفاسها، ولم يكن ذلك ممكنا إلاّ إذا عرفت أبنيةَ الجامعة وقاعات التّدريس فيها.

حين راحت تمشي على مهل للمرّة الأولى، رأته، وكم ارتبكتْ.

أحسَّت أنها المرّة الأولى التي ترى فيها شابًّا، شابًّا وسيمًا ينظر إليها بخجل واضح.

متَّجِها إليها كان، وحين وصلها، حيّاها: "مَرحبًا"!

"مَرحبا"، أجابت. وأحسّت بقدميها تتعثر الواحدة منهما بالأخرى وهي تبتعد.

***

جميلة وصغيرة، كان في وجهها شيء ما، يذكِّر بوجه فتاة يابانية. لا أحد يعرف من أين أتتها تلك الملامح. ربما كان السبب فرط رقَّتها ونعومة بشرتها التي ظلّت تشبه بشرة طفل صغير في عامه الأول. ربما كانت عيناها، وذلك الخَفر العذب الذي يفيض منهما على الدّوام، سواء نظرت إلى المرء مباشرة أم غضَّت طرْفها.

أبوها أدرك ذلك الجمال الهادئ منذ البداية، وهو يرى أن الله منحه أجمل وأرقَّ ما يمكن أن يزهو به أب: فتاة جميلة ورقيقة ومؤدبة.

أما العمّ، فلم يكن يردِّد سوى جملة واحدة وهو يراقب زهو أبو الأمين وفرحه بابنته: "سنرى آخرةَ الدّلال هذا، يا أبو أمين... يا مُتعلِّم"!

***

لا يعرف أبو الأمين لماذا يصرُّ أخوه على السّخرية منه ومن تعليمه. صحيح أنه لم يُنه السّادس الابتدائي، لكنه يستطيع أن يفكَّ حروفًا كثيرة مجتمعةً، وليس حرفًا واحدًا فقط!

كان يقرأ الجريدة، ويتابع الأخبار، ويشاهد مع منار فيلما كلّ ليلة جمعة. لم يكن هذا الأمر يعجب سالم أيضًا، سالم الذي ما إن رأى أحد الفنِّيين يُثبِّتُ الصّحن اللاقط فوق بيت أخيه حتى راح يركض منفعلًا نحو البيت كما لو أن النيران تلتهمه.

"ما الذي تفعله"؟! صرخ في وجه أخيه، "تُركِّب (سَطَلان) في بيتك، ألا تعرف ما الذي سيراه أولادك؟ ما الذي ستراه ابنتك"؟!

بهدوء قال له أبو الأمين: "سيرون ما أراه، وسنعرف ما يحدث في هذا العالم"!

"وما الذي يحدث في العالم ولا تستطيع أن تراه في محطة تلفزيون هذا البلد"؟!

"كلّ شيء"!

"تعقّل يا أبو الأمين، ولا تضعنا في هذا الموقف المشين"!

"يا أخي، أنت كبيرنا وأنا أحترمك، ولكن ألم تلاحظ بعد، أن ليس هنالك من سطح واحد يخلو من طبق لاقط، سوى سطح بيتك"؟

"أستغفر الله. إنك تجني على نفسك وعلى عيالك، وستثبت لك الأيام هذا"!

وابتعد سالم، بوجهه النّحيف، وجبينه الضَّيق، وشاربه الدّقيق الذي يُصرّ على القول إن الشَّيب لم يصله، رغم أن الجميع يعرفون أنه يصبغه؛ عباءته ترفُّ خلفه، وصدى كلماته يدور في الهواء.

***

حين تقدّم سالم ليخطب منار لابنه، بعد مرور أقلِّ من أسبوع على تركيب (طبق الشيطان)! كان على يقين بأنه يريد إخراجها من جهنم التي ألقاها فيها أخوه؛ أن يزفّها لابنه قبل أن تفسد أخلاقها.

"ليس لديّ بنات في عمر الزواج"، قال أبو الأمين، "بنتي ناجحة والحمد لله، وما دامت ناجحة سأعمل كلَّ ما أستطيع حتى تُكمل تعليمها، حتى لو بعتُ ما عليّ من ثياب".

في ذلك اليوم، وبعد خروج سالم غاضبًا، يُرغي ويُزبد، اتّخذ أبو الأمين قراره الأخطر: "عليَّ أن أتصرّف قبل فوات الأوان، فبهذا الراتب الذي أتقاضاه، لن أستطيع أن أراها طالبة جامعية".

***

أول شيء فعله، هو تلقِّي دروس في قيادة السيارات، وبعد خمسة وثلاثين درسًا، تلقّى معظمها أيام الجمعة، نال رخصة قيادة سيارة خصوصية، ولم يتوقّف إلا حين حصل على رخصة سيارة عمومية.

في اليوم التالي، ذهب إلى المصنع في موعده تمامًا، وبدل أن يتوجّه إلى موقع عمله، ذهب إلى إدارة شؤون الموظفين وقدَّم استقالته.

بعد شهر؛ أصبح حرًّا طليقًا، فبدأ رحلة البحث عن سيارة تاكسي، معتمدًا على تعويضاته التي حصل عليها وعلى ما ادَّخره من مال.

لم يَطُلْ بحثه، فبعد أقلّ من أسبوع اهتدى لسيارة تاكسي سوبارو، تكفي نظرة واحدة إليها ليعرف المرء أنها لم تترك مكانا في هذه المدينة، أو خارجها، إلاّ ووصلته مئات المرات.

اشتراها، لأنها كما يقال، كانت (على قدِّ لحافه)، وقبل أن يذهب للبحث عن رزقه، عاد من دائرة الترخيص لبيته مباشرة.

أمام الباب توقّف، مُطلقًا بوق سيارته بفرح طفل، وحين أطلَّت زوجته مبتهجة، قال لها: "أرسلي لي منار".

"إلى أين ستأخذها"؟

"فقط، أرسليها، وستُحدِّثكِ هي، حينما نعود"!

بعد ثلاث دقائق، أطلت منار غير مُصدِّقة عينيها. ترجل من السيارة وفتح لها الباب: "تفضلي يا آنسة"!

صعدت، وما إن أغلقت الباب حتى انطلق كسائق لا تنقصه الخبرة أبدًا.

***

شيئًا فشيئًا اختفت ملامح البؤس التي تجلل ذلك الحيّ الذي يسكنونه، ليحلَّ مكانها بذخ لا يُصدَّق لعمارات شاهقة، وأبنية تجارية، وقصور صغيرة وفنادق. اختفت القنوات الصغيرة التي تتسلل من تحت أبواب البيوت، لتحلّ مكانها نوافير وجسور وأنفاق، خُيِّل لمنار أنها تراها للمرّة الأولى.

حين وصلت السيارة إلى ذلك الجسر الكبير، وبدأت تتهادى؛ حين انعطفت نحو شارع جانبي، في تلك الظهيرة؛ حين راحت تسير ببطء أقل، قال لها أبو الأمين:

"بعد قليل سيكون باستطاعتك أن تحلمي كما تريدين"!

وعندما توقّفت السيارة أمام تلك البوابة الواسعة للجامعة، قال لها: "لا تسمحي لأحد أن يمنعك من الوصول إلى هنا".

نظرتْ إليه بعينين دامعتين وقالت: "لن أكون أقلّ من منار التي تعرفها ما دمت معي".

"سأكون معك، أعدك".

لكنه لم يكن يعرف أيّ اختبار ذاك الذي سيكون في انتظاره بعد سنوات قليلة.

* فصول من رواية (شرفة العار) التي يبدأ توزيعها في الثامن من آذار - يوم المرأة العالمي، ويوقعها المؤلف في الحفل الذي يقام الاثنين المقبل في مكتبة ريدرز ـ مجمع كوزمو، الدوار السابع ما بين السادسة والنصف والثامنة مساء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
theredrose

theredrose



شرفة العار Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرفة العار   شرفة العار Icon-new-badge8/3/2010, 15:11

يا عيني على الابداع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
كمونى

كمونى



شرفة العار Empty
مُساهمةموضوع: رد: شرفة العار   شرفة العار Icon-new-badge8/3/2010, 16:57

يسلموا الموضوع فى غاية الروعة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شرفة العار
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فيديو يوتيوب عشيق يقفز عاري من شرفة فى البرازيل اليوم 2013 , مشاهدة فيديو عشيق يقفز عاري من شرفة فراراً من الزوج
» اسماء قائمة العار اللبنانية الجديدة 2012 , قائمة العار اللبنانية الجديدة
» إدراج نجوى كرم على قائمة العار السورية إدراج نجوى كرم على قائمة العار السوري
» ماجدة الرومي تسقط على شرفة منزلها
» وفاة الفنانة نغم فتوكي بعد سقوطها من شرفة منزلها

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اربد :: المنتدى العلمي :: ادب و شعر :: قصص قصيرة-
انتقل الى: