كان للسجال الذي دار في لبنان وكان سجالاً طويلاً حول تمويل المحكمة الدولية أكبر الأثر في إيضاح العلاقة بين الثورة السورية والحالة اللبنانية. الموقف من المحكمة الدولية خلال السنتين الماضيتين أخذ خطوطاً متعددة. في البداية كان موقف حزب الله واضحاً، أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي «محكمةُ إسرائيلية»، وشكّلت المحكمة وجدلها بشتى موضوعاتها سبباً أساسياً لتوتر العلاقات وانقطاعها بين حزب الله وحزب المستقبل، بين حسن نصرالله وسعد الحريري، وكان الموقف من المحكمة مرتبطاً بالقوة السورية التي كان يستند عليها حزب الله.
أخذ الخط التصعيدي من المحكمة وتيرة واحدة إلى أن بدأت الثورة السورية، حينها بدأت موازين القوى في لبنان تختلف، من كان قوياً بالأمس يعاني من ضعفٍ في المشهد اليوم، لا يمكن لحزب الله أن يعتبر النظام السوري الحالي متماسكاً أو قوياً أو أنه قادر على الوقوف مع حلفائه بلبنان كما كان الأمر قبل سنة من الآن، لهذا فإن الخطابات الصلبة أذابتها الثورة السورية. جنبلاط الذي يتذبذب باستمرار تبعاً لتذبذب الحالة السورية، كان تصريحه في 2 ديسمبر واضحاً أنه ضمن الإطار العريض للتحالف مع حزب الله، وأنه لن «يغامر» بتغيير موقفه حالياً، كما أن نبيه بري وميشيل عون كلاهما اعترفا أخيراً بالقيمة الدبلوماسية السعودية حين ناشدا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالتدخل لحلّ الأزمة السورية، كل تلك الخطابات التي كانوا يطلقونها ضد السعودية ذهبت أدراج الرياح، لأن ميزان القوى في لبنان قد تغير.
ولعل ما سمي ب»ضوء حزب الله الأخضر» بوجه المحكمة الدولية، حين وافق على التمويل، بسعيٍ من نبيه بري قد وضع الأمور في نصابها، لأن ميقاتي قام بما كان ينوي القيام به الحريري، والتصريحات التي قيلت من قبل حزب الله وحلفائه عن ميقاتي لم تثنه عن عزمه على التمويل أو الاستقالة، ذلك أن الخيارات المتاحة أمام ميقاتي ليست دائماً في صالحه، لقد أسميتُ أنا حكومة ميقاتي في زاويتي هذه أول ماشكلت بأنها «حكومة ضرب المحكمة» كان ميقاتي يعلم أن الوقوف بوجه المحكمة شرط من شروط المجيء به للسراي الحكومي، وتوليته منصب رئيس الحكومة، ما الذي تغيّر إذاً؟!
ثمة تغييرات كثيرة شهدها لبنان بسبب الثورة السورية، شكلت الثورة السورية زلزالاً لميزان القوى في لبنان، ذلك أن مجرد انشغال النظام السوري بننفسه يعدّ هبوطاً حاداً لاسهم حزب الله في بورصة النفوذ الإقليمي. لقد جرحت نرجسية الحزب الذي كان يعوّل على السوريين لأنهم هم الذين يقبضون على المفاصل الأساسية في لبنان، إيران يمكنها أن تمنحه المال لكن لا يمكنها أن تكون كما كان النظام السوري، الذي يدير الكثير من القيادات والزعامات ويأمرهم ويشكل لبنان على النحو الذي يريد. لكن حزب الله اليوم انحنى برأسه موافقاً على التمويل لأن رياح عاصفة السورية عاتية وشديدة.
كل تلك التغييرات مكّنت اللبنانيين المعارضين ممثلين في حزب المستقبل والكتائب والقوات أن يتنفسوا الصعداء، لأن النظام السوري الذي كان يدير آلةً أمنية واستخباراتية في لبنان على مدى أربعين عاماً قد انشغل أخيراً بأعطال نظامه. والمأزق الذي يعيشه النظام السوري هو الذي جعل التوسل حاضراً في خطابيْ نبيه بري وميشيل عون، مطالبين بالتدخل السعودي لإنقاذ النظام السوري، متناسين أن النظام لا يمكن أن ينقذه أحد، لديه مبادرة تمثل العرب لم يلتزم بها وهو يعيش اليوم نتائج كوارث لم يصنعها ضده أحد.
المشهد اللبناني مليء بالانتظار، يتطلّع إلى ما تسفر عنه الثورة السورية، الهبّة الغاضبة من السوريين كانت مفاجئةً للبنانيين، ولهذا كان موقف وليد جنبلاط واضحاً من موسكو حين أيّد الثورة السورية، وطالب النظام السوري بإجراء إصلاحات، مما يدل على أن لبنان يتشكل من جديد من خلال تغييرات في مستويات القوة والنفوذ، لم يكن جنبلاط إلا ليعبر عن سياق تغيّر في مستوى جبروت النظام السوري في لبنان.
حزب الله لديه سلاحه، ولديه حلفاؤه، لكن إلى متى يظلّ هكذا؟ بعد سقوط النظام السوري هو مضطر لأن يسيّس حزبه العسكري، ليكون ضمن المعادلة اللبنانية، وأن تكون قوة الأحزاب بجيش الدولة ومؤسساتها التي هي ملك الجميع، لا من خلال سلاحٍ رادع يوجّه للداخل أحياناً.
لبنان يتغيّر نحو شكلٍ مختلف، ليس بالضرورة أن يكون أفضل مما كان، لكن بالتأكيد سيكون للقوى المتنفذة حالياً في بنان موقعٌ آخر في طريقة التدخل أو الضغط، وفي آليات العمل السياسي، وموقف حزب الله الأخير من تمويل المحكمة الدولية أوضح مثالٍ على التحوّل .. نعم لقد قبل حزب الله بأن تموّل المحكمة الدولية التي وصفها نصر الله نفسه ذات يوم بانها «محكمة إسرائيلية».