الموقف الأردني من الأزمة السورية
(( ـ بقـلم : نقولا ناصر )) : ( مليارات المساعدات المالية الأميركية والخليجية ليست ضمانة كافية تمنح الأردن حصانة تحميه من مضاعفات تدمير الدولة السورية باسم تغيير النظام على الطريقة العراقية أو الليبية ) ...: في مقابلته مع هيئة الاذاعة والتلفزيون البريطانية ( بي بي سي ) في الرابع عشر من الشهر الجاري، قدم الملك عبد الله الثاني تقديرا للأوضاع في سورية، ولوضع الرئيس بشار الأسد واستعداده للاصلاح، وللعلاقات الثنائية بين القيادتين والحكومتين، وهو تقدير وضع بحاجة الى البناء عليه أردنيا وسوريا، لكنه أيضا تقدير يستدعي إعادة النظر في الموقف الأردني من الأزمة السورية بحيث ينسجم هذا الموقف في نتائجه مع المقدمات التي وردت في التقدير الملكي.
على صعيد العلاقات الثنائية بين القيادتين والحكومتين، أكد الملك "توقف الاتصال" مع الرئيس السوري "في أواخر الربيع" الماضي، موضحا أنه بعد ذلك لم يعد يتلقى "أي اتصالات من طرف الرئيس السوري بشار أو حكومته"، ومؤكدا كذلك عدم وجود "النية الصادقة للتواصل معنا"، قبل أن يضيف أنه "بات من الواضح لي أنهم غير مهتمين بالحوار مع الأردن .. لسوء الحظ". وهذه بالتأكيد "شبه قطيعة" غير مقبولة في ظروف عادية، لكنها تصبح مرفوضة وبحاجة الى وصل سريع في الظروف الاستثنائية الراهنة.
إن سعي المسؤولين في القطرين الى احتواء مضاعفات ما وصفه الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، راكان المجالي، بال"صورة المجتزأة" لنقل "تصريحات الملك عبد الله حول سورية" في وسائل الاعلام ـ بـ "الاعتذار" غير المعلن الذي قدمته الحكومة السورية عن مهاجمة السفارة الأردنية في دمشق أثناء اجتماع نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد مع السفراء العرب يوم الاثنين الماضي، حسب ما أفاد المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأردنية السفير محمد الكايد، والاعتذار غير الصريح وغير المباشر الذي قدمه المجالي عندما قال إن "اجتزاء" تصريحات الملك "شوه صورة العلاقة بين البلدين في الوقت الذي تحرص القيادة الأردنية على استقرار الأوضاع في سورية" ـ هو مسعى في الاتجاه الصحيح يكشف حرص الجانبين على عدم تدهور العلاقات الثنائية من ناحية، لكنه يكشف من ناحية ثانية عن إدراكهما للمخاطر على القطرين الكامنة في فقدان سيطرتهما على التحكم بمضاعفات الأزمة السورية على العلاقات الثنائية، نظرا للمصالح الوطنية العليا المتشابكة للقطرين لعوامل جيوبوليتيكية واضحة ليست مرتبطة بالنظام الحاكم في كل منهما.
ومن الواضح وجود مجموعة من العوامل تدفع العلاقات الثنائية في الاتجاه المعاكس، منها سورية مثل الضغوط الناجمة عن تفاقم التمرد المسلح ضد الحكم وهي ضغوط يغذيها ما تتناقله وسائل اعلام استخفافا أو خدمة لأجندات لا علاقة لها بالقطرين عن تسليح للتمرد من الأردن وعن خطط يدعمها الأردن لإنشاء منطقة عازلة كملاذ آمن لهذا التمرد في جنوب سورية تتخذ لاحقا مسوغا للمطالبة بحظر جوي يستدعي التدخل العسكري الأجنبي من أجل فرضها في تكرار للسيناريو الليبي.
ومن هذه العوامل ما هو أردني داخلي، مثل الدعوات اللامسؤولة من داخل المملكة ـ التي تخدم برنامجا حزبيا خالصا أكثر مما تخدم أي مصلحة وطنية أردنية أو قومية عربية ـ الى إسقاط النظام السوري، و"وقف كافة اشكال التعاون" مع سورية، وطرد سفيرها من عمان، وسحب السفير الأردني من دمشق، والاعتراف بالمجلس الانتقالي المعارض في الخارج، الخ، كما أعلنها المراقب العام لجماعة الاخوان المسلمين همام سعيد والناطق الرسمي باسم الجماعة جميل أبو بكر وغيرهما. ولا يقلل من خطورة هذه الدعوات على العلاقات الثنائية كونها مقتصرة على جماعة الاخوان وحزبها جبهة العمل الاسلامي، ومعارضة الحكم وكل القوى السياسية الأخرى لها، لأسباب موضوعية عدة منها وزن الجماعة وحزبها، وعلاقاتها الوثيقة مع "إخوان" سورية الذين اضطروا الى الانحناء أمام اجماع الحكم ومعظم المعارضة الوطنية في الداخل على رفض التدخل العسكري الأجنبي للمطالبة بتدخل تركيا بحجة واهية هي كونها بلد شقيق مسلم وعضو في منظمة المؤتمر الاسلامي، متجاهلين عضويتها الأهم في حلف الناتو وعلاقات تحالفها الأقوى مع الولايات المتحدة، ومتجاهلين اشتراط أنقرة المعلن للتدخل بضمان الدعم له من الناتو ومن الحليف الأميركي على حد سواء، مما يجعل التدخل الغربي على النمط الليبي تحصيل حاصل مفروغا منه لأي تدخل تركي في سورية.
ولا يمكن طبعا تجاهل تأثير عامل ثالث ضاغط بقوة على القرار الأردني بشأن الموقف من الأزمة في سورية، وهو علاقات المملكة الخارجية التي تضغط في الاتجاه المعاكس لاحتواء التدهور في العلاقات الثنائية مع سورية، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تجعل الأردن بحاجة ماسة لا بديل لها للدعم المالي من دول مجلس التعاون الخليجي العربية ومن الولايات المتحدة، وهذه هي على وجه التحديد الدول التي تبدو مصممة على "تغيير النظام" في سورية بكل الوسائل ومهما كان الثمن.
ومن المتوقع أن تكون الدبلوماسية السورية مدركة لواقع صنع القرار الأردني والضغوط الهائلة عليه، ومدركة كذلك لحقيقة أن "المتوقع" أميركيا وخليجيا من الأردن هو بالتأكيد موقف مختلف تماما عن موقفه الحالي: فالأردن يعتبر "العلاقة مع سورية مصلحة عليا مشتركة"، وهو حريص على "رفض التدخل الأجنبي في سورية"، ولأن الأردن لا يريد "تكرار مأساة العراق" فإن مساعيه "ستبقى مستمرة لتفعيل الحل العربي لحل الأزمة"، والخارجية الأردنية اعتبرت قرار الجامعة العربية بسحب السفراء العرب من دمشق "غير ملزم" و"شأنا سياديا" أردنيا، والاعتراف بالمجلس الانتقالي المعارض في الخارج "غير مطروح الآن"، ولا وجود ل"خطة استقبال أعدتها الحكومة الأردنية" لنازحين من سورية "والأردن لن يوافق على ذلك". ومن المؤكد أن هذا الموقف الأردني كما لخصه وزير الدولة لشؤون الاعلام والاتصال راكان المجالي لل"سي ان ان" مؤخرا سوف يظل هدفا للضغوط الأميركية والخليجية من أجل تغييره، ومن المؤكد كذلك أن عدم الاتصال والتواصل السوري مع الأردن لا يسهل مهمة الأردن في مقاومة هذه الضغوط بل يوفر ذرائع لاضعافها، وهذه مهمة يجدر بالدبلوماسية السورية التصدي لها بسرعة، في الأقل لموازنة الضغوط المقابلة على القرار الأردني.
إن خلو مقابلة الملك من أي اشارة الى عنف ما يسميه الاعلام الرسمي السوري "عصابات ارهابية مسلحة" حصدت وما زالت تحصد المئات من أرواح قادة وافراد عسكريين وأمنيين لن يسهل بدوره أي استجابة سورية لدعوة الملك الى الاتصال والتواصل بين القيادتين والحكومتين. لقد افتخر الملك في مقابلته بأننا "لم نر أي وفيات في شوارعنا" وربط ذلك ب"اننا في الأردن لدينا الحل الأمثل للانفتاح عبر الحوار الوطني". وكان الملك محقا. لكن ربما يتساءل المسؤولون السوريون عما إذا كانت النتيجة ستكون ذاتها لو بادر الحراك الشعبي في الأردن الى حوار لاوطني بالسلاح منذ أيامه الأولى من أجل اسقاط النظام كما في الحالة السورية. إن الاعتراف الأردني بحقائق الصراع الواقعي على الأرض في سورية يبدو مطلبا سوريا يمهد الطريق للاتصال والتواصل ويبدد الشكوك السورية التي تجعلهم "غير مهتمين بالحوار مع الأردن" كما قال الملك.
إن تقدير الملك في مقابلته مع "بي بي سي" للأوضاع في سورية يوفر كذلك أرضية لأسباب براغماتية تحول دون أي تسرع أردني في الانسياق مع تلك الضغوط، ف"سورية باعتقادي تمثل حالة منفردة"، والوضع فيها "مختلف عن ليبيا"، وأي تكرار للسيناريو الليبي في سورية "سيكون مشهدا أكثر تعقيدا مما جرى في العراق"، كما قال عبد الله الثاني مضيفا: و"من المستحيل في الوقت الراهن لأي شخص أن يتنبأ بما ستؤول اليه الأوضاع في سورية"، "وهذه هي المرة الأولى التي لا يكون لدى غالبية القادة أي اجابة واضحة حول سورية"، و"الناس يتطلعون الى حل سحري، وهو ليس موجودا في الوقت الراهن"، و"النظام يبدو في وضع مريح نوعا ما، وسوف يستمر النظام".
وهذا التوصيف الملكي للوضع السوري الراهن يمنع اي صاحب قرار يتسم بحد أدنى من الحكمة السياسية من اتخاذ قرار حاسم مبني على أساس أن تغيير النظام قد أصبح مسألة وقت فحسب، كما كان الحال في ليبيا. كما أثار الملك مسألة البديل للنظام الحالي في دمشق كسبب براغماتي آخر لعدم التسرع في الانسياق لضغوط الحلفاء الأجانب والأشقاء العرب عندما تساءل في مقابلته: "من سيخلف الرئيس بشار"؟ "وإذا كان هناك مرحلة ما بعد بشار، فما هي طبيعتها"؟ إن "المجهول يثير المخاوف أكثر من المعلوم"!
لقد حذر الملك من أنه "في حال عزل سورية" ف"اننا سنستمر في رؤية ما يجري حاليا بدون أي تغيير" و"سنشهد استمرارا للعنف". وفي إطار هذا التحذير لا يمكن النظر ايجابيا الى مواقف جامعة الدول العربية التي تستهدف عزل سورية في المقام الأول، وفي إطاره أيضا يبدو الموقف الأردني متناقضا عندما يقول وزير الخارجية ناصر جودة إن "موقف الأردن سيكون مع الموقف العربي" وإن "الأردن مع الاجماع العربي"، وهو ذات الموقف الذي اكده عبد الله الثاني عندما قال، أثناء استقباله أعضاء مجلسي اللوردات والعموم البريطانيين يوم الاثنين الماضي، إن الأردن سيصطف مع الاجماع العربي حيال المسألة السورية. إن تحذير الملك من "عزل سورية"، وتصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية بأن "العلاقة مع سورية مصلحة عليا مشتركة"، يلقي على الدبلوماسية الأردنية مهمة إعادة النظر في تبعية الموقف الأردني لموقف عربي بالكاد يستر وصفه ب"العربي" كونه موقفا ومطلبا أميركيا – أوروبيا في المقام الأول.
إن المقدمات التي وردت في مقابلة الملك مع البي بي سي، مثل "استحالة" التنبؤ بما "ستؤول اليه الأوضاع في سورية" وكون النظام "سوف يستمر" وأنه حاليا "في وضع مريح" وأن "تغيير الرئيس بشار، ربما، لن يحل المشكلة" لأن "في سورية نظام" للحكم والرئيس السوري "ليس الشخص الوحيد الذي يتحكم بالأمور" وأن البديل "مجهول يثير المخاوف"، هي مقدمات لا تترك مجالا لغير الاستنتاج بان أي موقف يستند الى "تغيير النظام" و"اسقاط الرئيس" في سورية إنما يتناقض مع تلك المقدمات وسيقود الى تعقيد الأزمة السورية وإطالة عمرها ولن يكون جزءا من الحل على الأرجح.
وعندما يقول الملك عبد الله الثاني عن الرئيس الأسد "عرفته جيدا" وإنه يعتقد "حقيقة بأن لديه (الأسد) نية الاصلاح" مضيفا ان "رؤيته التي ينشدها لسورية، وكما سمعت منه في كل المناسبات التي جمعتني به، كانت مشجعة للغاية"، فإن الموقف الأردني الذي يكون منطقيا بناء على ذلك ينبغي أن يكون موقفا يتبنى حزمة الاصلاحات التي تبناها الرئيس الأسد كمدخل واقعي و"سلمي" لحل الأزمة، وهي إصلاحات لم تترك مجالا للشك في أنها تستهدف استبدال نظام الحزب الواحد والقائد الموروث من حقبة الحرب الباردة بنظام متعدد سياسيا في دولة مدنية يحكمها القانون والنظام، وهي الاصلاحات التي يستهدف تصعيد التمرد المسلح على النظام دون تطبيق مراسيمها وقوانينها التي صدرت فعلا أو هي على وشك الصدور ضمن مواعيد زمنية معلنة.
ومن المعروف أن الموقف العربي الذي يقود الجامعة العربية اليوم، والذي تعلن الدبلوماسية الأردنية ربط موقف الأردن به، في ظروف تنكفئ فيها على نفسها القوى العربية الرئيسية التي تصنع القرار العربي عادة نتيجة تفاعلات الحراك الشعبي فيها من أجل التحول الديموقراطي، مثل مصر، أو نتيجة الاحتلال الأجنبي، مثل العراق، هو موقف يسعى الى "تغيير النظام" في سورية لأسباب لا علاقة لها بالتغيير والاصلاح، ومضاعفات هذا الموقف "العربي" على أمن الأردن واستقراره ومصالحه الوطنية العليا ترد في آخر حسابات أصحاب هذا الموقف أو هم غير معنيين بها على الاطلاق، ومن المؤكد أن مليارات المساعدات المالية الأميركية والخليجية ليست ضمانة كافية تمنح الأردن حصانة تحميه من مضاعفات تدمير الدولة السورية باسم تغيير النظام على الطريقة العراقية أو الليبية.
إن تحذيرات وزراء خارجية روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا وغيرهم خلال الأيام القليلة الماضية من "حرب اهلية" في سورية، وصفها وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه بأنها "ستكون كارثة"، هي إنذار جديد يحفز الأردن الى مقاومة الضغوط للزج به في سيناريو ضد سورية إن نجح اصحابه فيه سيقود الى مشهد "أكثر تعقيدا مما جرى في العراق" في شمال المملكة، وهي تحذيرات تتخذها الجامعة العربية مسوغا لعزل سورية وفرض عقوبات عليها بحجة منع وقوع حرب كهذه، مما يكشف التناقض الفاضح والصارخ بين اقوال كل هؤلاء وبين افعالهم التي لا يمكن الا أن تقود حتما الى اندلاع حرب أهلية سورية، يدركون جميعا أن الشرط الموضوعي المسبق لاندلاعها هو تدمير الدولة السورية، في تكرار للتجربة العراقية، والطريق الى تدمير هذه الدولة يبدأ بعزل سورية سياسيا واقتصاديا من الخارج وتصعيد التمرد المسلح ضدها من الداخل كمدخل وحيد متاح للتدخل العسكري الأجنبي وهو الوحيد القادر على تدميرها.
( كاتب عربي من فلسطين