عسكر.. وحرامية.. وثوار
الحالة المصرية في مرآة الطفولة
«مين يحب يلعب عسكر، ومين يحب يلعب حرامية؟».. كنا أطفالا صغارا، وكنا نبدأ اللعبة بهذا الاقتراع الطفولي البريء. وما إن تنطلق صافرة البداية حتى يهرع كل فريق إلى أخذ مكانه في فضاء المكان الذي يتحول بدوره إلى مسرح شعبي مفتوح على الكثير من المفارقات والمواقف التي لا تخلو من روح الدعابة والمزاح.
في غمضة عين يختبئ فريق الحرامية، بين أكوام الهشيم أو في الأزقة، أو في حقول الذرة، أو بين غصون الأشجار المتشابكة، وكانت مهمة العسكر القبض عليهم بسرعة، وتقديمهم للعدالة بتهم مجازية، كان أصعبها سرقة علبة النشوق من صندوق الجدة، وكان العسكر أحيانا يضطرون إلى تكتيفهم بالحبال إمعانا في التشويق وتنويع الدراما. ولم تمنع حيوية اللعب من أن يتبادل الفريقان الأدوار في أشواط أخرى، حتى يتسع فضاء المتعة التي كان يشارك فيها الصبيان والبنات معا.
تحت سقف هذه اللعبة البريئة تدخل الحالة المصرية الراهنة بامتياز، خاصة بعد أن دخل «الثوار» فيها كضلع ثالث، يتمتع بحيوية وفعالية خاصة.. وتزداد سخونة اللعبة بعد أن آلت السلطة إلى العسكر برضا من الثوار الذين أطاحوا بنظام حسني مبارك، لكن بعد تسعة أشهر من الشد والجذب السياسي واختلاط الأوراق والأدوار، انفلت عيار اللعبة وتاه العسكر في «الحرامية»، الكل يتنازع دوره المحدد سلفا على المسرح، لا يكتفي به، بل يسعى للاستيلاء على النَّص «السلطة» بكل هوامشه المتناثرة في الواقع، وإزاحة الثوار الوافدين الجدد على فضاء اللعبة.
ولم يجد فريق العسكر بدا من أن يخلعوا قناع اللعبة، ليملأوا مسرحا خاويا من هيبة الدراما التي تمثلها الدولة، مسرحا توهموا أن كل من فيه ضلوا الطريق إلى اللعبة، أو أنهم لا يعرفون أبسط قواعدها.. ومن أجل ذلك انتهك العسكر كل الخطوط الحمراء والخضراء والبيضاء حتى سال الدم في الطرقات.
لم يدرك العسكر أن اللعبة في جوهرها مرادف للحرية، وأن شرطها الوحيد هو فعل الاختيار الحر، وأن أدوارهم يجب ألا تتجاوز حدود «النص» وخشبة المسرح. وفي غبار ذلك تفنن الحرامية في التمويه على أدوارهم، أصبحوا لا يتناسلون من عباءة الماضي فقط، بل ينوعون الزي والأقنعة، فهم تارة بلطجية وقطاع طرق، خارجون على القانون، ومأجورون، يلعبون من أجل مهام محددة لإفساد اللعبة، والخروج بها عن مدارها الصحيح، وتارة أخرى هم مغلوبون على أمرهم، تمسحوا بمظلة الثوار واستقوا بظلالها، حتى نازعوهم أدوارهم في فضاء اللعبة.. وفي مقابل ذلك، أدرك الثوار أنهم استُدرجوا إلى فخ باسم لعبة، قُدر لهم أن يعيدوا ترتيب أوراقها ومساراتها، ويطهروها بفعل الثورة مما اعتراها من صدأ وقيح، فأصروا على الرجوع إلى نقطة الصفر، إلى الميدان، المسرح الأول الذي فجر شرارة اللعبة، رافضين أن يحدد العسكر خطى البداية والنهاية.
يضحك أستاذ الأدب الشعبي الدكتور صلاح الراوي، وهو يعلق على الموضوع قائلا: «المشكلة أنه تم خلط أوراق اللعبة عن عمد وغباء، وباسم طفولتها يتم ارتكاب الجرائم، فلا العسكر قانعون بأدوارهم ومهمتهم المحددة في لحظة استثنائية من تاريخ الوطن، كما أن الحرامية وجدوا في انفلات الأمور مناخا ملائما لتغيير دفة اللعبة إلى أقصى النقيض، فكان لا بد أن يرفض الثوار دور المراقب، فهم صناع الحدث، صناع اللعبة التي يدعى الطرفان الآخران بنوّتها، حتى أصبحنا أمام عسكر وحرامية يخونون صورتهم في المرآة، ويدعون أنها مشوهة ولا تشبههم لأنها باختصار شديد مرآة الثورة والثوار».