مختارات من قصيدة ملحمة الابتلاء- الملحمة النونية
وهي ملحمة ألفت داخل السجن الحربي في القاهرة عام 1955م وهي تحكي قصة سجين قضى نحو عشرين شهراً في السجن الحربي ... إنها تصوير بسيط لبعض ما قاساه المسلمون الذين عذبوا في هذا السجن الرهيب.
وتبلغ عدد أبياتها أربعة وتسعين ومائتين - ونورد هنا جزءاً منها
شعر الشيخ: يوسف القرضاوي.
ثار القريض بخاطـري فدعونـي أفضـي = لـكــم بفـجـائـعـي وشـجـونــي
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى والشعر = عــودي يــوم عـــزف لـحـونـي
كم قال صحبي أين غـر قصائـدي تشجـي = الـقـلـوب بلحـنـهـا الـمـحــزون
وتـخـلّـد الـذكــرى لأليمة للورى تتلى =على الأجيال بعد قرون
مـا حيلتـي والشعـر فيـض خواطـرٍ م = ا دمـــت أبـغـيـه ولا يبغـيـنـي ؟
واليـوم عاودنـي المـلاك فهزنـي طربـا = ً إلـــى الإنــشــاد والتـلـحـيـن
ألهمتها عصماء تنبع مـن دمـي ويمدهـا = قـلـبــي ومـــــاء عـيــونــي
نونيـة والنـون تحلـو فـي فمـي أبـدا = ً فـكـدت يـقـال لـــي ذو الـنــونِ
صورت فيها ما استطعت بريشتي وتركـت = لــلأيـــام مـــــا يـعـيـيـنـي
أحداث عهد عصابة حكمـوا بنـي مصـر = َ بــــلا خــلــقٍ ولا قــانـــون
أنست مظالمهم مظالـم مـن خلـوا حتـى = تـرحـمـنـا عــلــى نــيـــرون
حسبوا الزمـان أصـمّ أعمـى عنهـم قـد = نــوّمــوه بـخـطـبـةٍ وطـنـيــن
ويراعة التاريـخ تسخـر منهمـو وتقـوم = بـالـتـسـجـيـل والــتــدويـــن
وكفـى بربـك للخليقـة محصـيـاً فــي = لــوحــه وكـتـابــه الـمـكـنـون
يا سائلي عن قصتي اسمـع إنهـا قصـص = مـــن الأهــــوال ذات شــجــون
أمسـك بقلبـك أن يطيـر مفزعـاً وتـولّ = عـــن دنـيــاك حـتــى حـيــن
فالهـول عـاتٍ والحقائـق مـرةٌ تسـمـو = عـلــى الـتـصـويـر والتـبـيـيـن
والخطب ليس بخطب مصـر وحدهـا بـل = خـطـب هــذا المـشـرق المسكـيـن
فـي ليلـة ليـلاء مـن نوفمبـرٍ فزعـت =مــن نـومــي لـصــوت رنـيــن
فإذا كلاب الصيد تهجـم بغتـةً وتحوطنـي = عــــن شــمـــألٍ ويـمــيــن
فتخطفونـي مـن ذوي وأقبـلـوا فـرحـا =ً بـصـيــدٍ لـلـطـغـاة سـمـيــن
وعزلت عن بصر الحياة وسمعهـا وقذفـت = فــي قـفــص الـعــذاب الـهــون
في ساحة (الحربي) حسبـك باسمـه مـن = بـاعـث للـرعـب قـــد طـرحـونـي
ما كدت أدخـل بابـه حتـى رأت عينـاي = مـــا لـــم تحتـسـبـه ظـنـونـي
فـي كـل شبـر للعـذاب مناظـرٌ ينـدى = لـهــا -والله - كــــل جـبـيــن
فترى العساكـر والكـلاب معـدة للنهـش= طــــوع الـقـائــد الـمـفـتــون
هـذي تعـض بنابهـا وزميلهـا يـعـدو = عـلـيـك بـسـوطــه الـمـسـنـون
ومضـت علـي دقائـق وكأنـهـا مــم = ا لقـيـت بـهــن بـضــع سـنـيـن
يا ليت شعري ما دهـانِ؟ ومـا جـرى؟ ل= ا زلــت حـيـاً أم لقـيـت مـنـونـي؟
عجباً أسجـن ذاك أم هـو غابـةٌ بـرزت = كـواسـرهـا جــيــاع بــطــون ؟
أأرى بنـاء أم أرى شقـي رحـى جبـارة = لـلـمـؤمـنـيــن طـــحــــونِ؟
واهـاً أفـي حـلـم أنــا أم يقـظـةً أم = تـلــك دار خـيـالــة وفــتــون ؟
لا لا أشـك هـي الحقيقـة حيـة أأشــك = فــي ذاتـــي وعـيــن يقـيـنـي ؟
هذي مقدمة الكتـاب فكيـف مـا تحـوي = الفصـول الـسـود مــن مضـمـون ؟
هذا هـو (الحربـي) معقـل ثـورة تدعـو = إلــــى الـتـحـريـر والـنـكـويـن
فيـه زبانيـة أعـدوا لـلأذى وتخصصـو = ا فــــي فــنـــه الـمـلـعــون
متبلـدون عقولهـم بأكفـهـم وأكفـهـم= لــلــشـــر ذات حــنـــيـــن
لا فـرق بينهمـو وبيـن سياطهـم كــل = أداة فــــي يــــدي مــأفـــون
يتلقفـون القادمـيـن كأنـهـم عـثـروا = عـلــى كـنــزٍ لـديــك ثـمـيــن
بالرجـل بالكربـاج باليـد بالعصـا وبكـل = أســلـــوبٍ خـسـيــســسٍ دونِ
لا يقـدرون مفكـراً ولــو أنــه فــي = عـقــل ســقــراط وأفــلاطــون
لا يعبئـون بصالـحٍ ولــو أنــه فــي = زهــد عيـسـى أو تـقـى هـــارون
لا يرحمـون الشيـخ وهومحطـمٌ والظهـر = مــنــه تــــراه كـالـعـرجــون
لا يشفقون علـى المريـض وطالمـا زادو = ا أذاه بــقــســوةٍ وجـــنـــون
كـم عالـمٍ ذي هيبـة وعمامـةٍ وطـئـوا = عـمـامـتـه بــكــل مــجـــون
لو لم تكن بيضاء مـا عبثـوا بهـا لكنهـا = هــانــت هـــــوان الــديـــن
وكبيـرِ قـومٍ زينتـه لحيـةٌ أغرتهـمـو = بــالــســـبِّ والـتـلــعــيــن
قالـوا لـه :انتفهـا -بكـل وقاحـةٍ لـم = يـعـبــأوا بسـنـيـنـه الـسـتـيـن
فـإذا تقـاعـس أو أبــى يــا ويـلـه = مـمـا يـلاقـي مــن أذىً وفـتــون
أتـــرى أولـئــك ينـتـمـون لآدمٍ أم = هــم ملاعـيـنٌ بـنــو مـلـعـون ؟
تالله أيــن الآدمـيـة منهـمـو مـــن = مـثـل محـمـودٍ ومـــن يـاسـيـن
من جودة أو من دياب ومصطفـى وحمـادة = ٍ وعــطــيـــة وأمــــيــــن
لا تحسبوهـم مسلميـن مـن اسمـهـم لا = ديــن فيـهـم غـيـر ســبّ الـديـن
لا ديـن يـردع لا ضمـيـر محـاسـبٌ لا = خــوف شـعـبٍٍ لا حـمـى قـانــون
مـن ظـن قانونـاً هنـاك فإنمـا قانوننـا = هــــو حــمــزة الـبـسـيـونـي
جـلاد ثورتهـم وسـوط عذابهـم سمـوه = زوراً قـــائـــداً لــســجـــون
وجـه عبـوس قمطريـر حاقـدُ مستكبـر = الـقـســمــات والـعــرنــيــن
في خـده شـجٌ تـرى مـن خلفـه نفسـا = ً مـعـقــدةً وقــلــب لـعــيــن
متعطـشٍ للسـوءِ فـي الـدم والـغٍ فـي = الـشـرّ مـنـقـوعٍ بـــه مـعـجـونِ
هـذا هـو الحربـي معقـل ثـورة تدعـو = إلـــى الـتـطـويـر والتـحـسـيـن
هو صورة صغرى استعيرت من لظـى فـي = ضيـقـهـا وعـذابـهـا الـمـلـعـون
هـو مصنـع للهول كـم أهــدى لـنـا =صــوراً تذكـرنـا بـيــوم الـديــن
هو فتنـة فـي الديـن لـولا نفحـةٌ مـن = فـيـض إيـمــانٍ وبـــرد يـقـيـن
قل للعـواذل إن رميتـم مصرنـا بتخلـف = الـتـصـنــيــع والـتــعــديــن
مصر الحديثـة قـد علـت وتقدمـت فـي = صـنـعـة التـعـذيـب والـتـقـريـن
وتفننـت - كـي لا يمـل معـذَّبٌ فــي = الـعــرض والإخـــراج والتـلـويـن
أرأيـت بالإنسـان يُنفـخ بطنـه حـتـى = يُــرى فـــي هـيـئـة الـبـالـون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغـط رأسُـه بالطـوق = حــتــى يـنـتـهـي لـجـنــون ؟
أسمعت بالإنسـان يُشعـل جسمُـه نـار اً =وقـــد صـبـغــوه بالـفـزلـيـن ؟
أسمعت ما يلقى البـرئ ويصطلـي حتـى = يـقـول: أنــا الـمـسـئُ خـذونــي
أسمعت بالآهـات تختـرق الدجـى ربـاه = عــدلــك .. إنــهــم قـتـلـونـي
إن كنت لم تسمع فسل عمّـا جـرى مثلـي = ولا يـنـبـيـك مــثــل سـجـيــن
واسـأل ثـرى الحربـي أو جدرانـه كـم = مــن كسـيـر فـيــه أو مـطـعـون
وسل السياط السود كم شربت دمـاً حتـى = غـــدت حـمــراً بـــلا تـلـويـن
وسل (العروسة) قبحـت مـن عاهـرٍ كـم = مــن جـريـحٍ عـنـدهـا وطـعـيـن
كـم فتيـة زفـوا إليهـا عنـوة سقطـوا = مــــن الـتـعـذيـب والـتـوهـيـن
واسأل (زنازين) الجليـد تجبـك عـن فـن = الـعــذاب وصـنـعــة التـلـقـيـن
بالنـار أو بالزمهريـر فتلـك فـي حيـنٍ = وهــــذا الـزمـهـريـر بـحـيــن
يُلقـى الفتنـى فيهـا ليالـي عـاريـاً أو = شـبـه عــارٍ فــي شـتـا كـانـون
وهناك يملي الاعتـراف كمـا اشتهـوا أو = لا فـويــل مـخـالــفٍ وحــــرون
وسل (المقطـم) وهـو أعـدل شاهـدٍ كـم = مــن شهـيـدٍ فــي الـتـلال دفـيـن
قتلتـه طغمـة مصـر أبـشـع قتـلـةٍ لا = بالـرصـاص ولا الـقـنـا المـسـنـون
بـل علقـوه كالذبيحـة هيئـت للقـطـع = والـتـمــزيــق بـالـسـكــيــن
وتهجـدوا فيـه ليـالـي كلـهـا جـلـد ٌ= وهــم فــي الجـلـد أهــل فـنـون
فإذا السياط عجـزن عـن إنطاقـه فالكـي = بـالـنـيـران خــيــر ضـمـيــن
ومضـت ليـالٍ والعـذاب مسجّـرٌ لفتـى= بـأيــدي المـجـرمـيـن رهــيــن
لـم يعبـؤوا بجراحـه وصديـدهـا لــم = يـسـمـعـوا لــتــأوهٍ وحـنـيــن
قالوا اعترف أو مت فأنـت مخيّـرٌ فأبـى = الـفـتـى إلا اخـتـيــار مــنــون
وجرى الدم الدفاق يسطر فـي الثـرى يـا = إخـوتـي استـشـهـدت فاحتسـبـونـي
لا تحزنـوا إنـي لربـي ذاهــبٌ أحـيـا = حـيــاة الــحــر لا الـمـسـجـونِ
وامضوا على درب الهدى لا تيأسوا فاليأس = أصـــل الـضـعــف والـتـهـويـن
قـل للـذي جعـل الكنانـة كلهـا سجنـاً = وبــات الشـعـب شـــر سـجـيـن
يـا أيهـا المغـرور فـي سلطانـه أمـن = النـضـار خلـقـت أم مــن طـيـن ؟
يا من أسأت لكـل مـن قـد أحسنـوا لـك = دائنـيـن فـكـنـت شـــر مـديــن
يا ذئـب غـدرٍ نصبـوه راعيـاً والذئـب = لـــم يـــك سـاعــة بـأمـيــن
يا من زرعت الشر لن تجني سـوى شـر ٍ =وقــدٍ فـــي الـصــدور دفـيــن
سيزول حكمك يا ظلوم كمـا انقضـت دول = أولات عـســاكــر وحـــصـــون
ستهـب عاصفـةٌ تــدك بـنـاءه دكــاً = وركــن الـطـلـم غـيــر ركـيــن
ماذا كسبت وقد بذلت من القـوى والمـال = بــــــالآلاف والـمــلــيــون ؟
أرهقت أعصاب البـلاد ومالهـا ورجالهـا = فــــي الــهــدم لا الـتـكـويــن
وأدرت معركـة تـأجـج نـارهـا مــع = غـيـر (جــون بــولٍ) ولا كوهـيـن
هـل عـدت إلا بالهزيمـة مـرّةٍ وربحـت = غـيــر خــســارة الـمـغـبـون ؟
وحفرت في كـل القلـوب مغـاوراً تهـوي = بـهــا سـفــلاً إلـــى سـجّـيـن
وبنيـت مـن أشلائنـا وعظامنـا جسـرا ً= بــــه نــرقـــى لـعـلـيـيـن
وصنعت باليد نعش عهدك طائعـاً ودققـت = إسـفـيـنـاً إلـــــى إسـفــيــن
وظننت دعوتنـا تمـوت بضربـةٍ خابـت = ظنـونـك فـهــي شـــر ظـنــون
بليـت سياطـك والعزائـم لـم تـزل منّـا = كــحــدّ الــصــارم الـمـسـنـون
إنـا لعمـري إن صمتنـا برهـةً فالـنـار = فـــي الـبـركــان ذات كــمــون
تا لله مـا الطغيـان يهـزم دعـوةً يومـاً = وفــي الـتـاريـخ بـــرُّ يمـيـنـي
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي بالسـوط = ضــع عـنـقـي عـلــى السـكّـيـن
لـن تستطيـع حصـار فكـري ساعـةً أو = نــزع إيمـانـي ونـــور يقـيـنـي
فالنور في قلبي وقلبـي فـي يـديْ ربّـي = .. وربّـــي نـاصــري ومـعـيـنـي
سأعيش معتصماً بحبـل عقيدتـي وأمـوت = مبـتـسـمـاً لـيـحـيـا ديــنـــي