أمس "الأحد" كان يوما فارقا فى تاريخ حكومة الدكتور عصام شرف، منذ أن جاء "شرف" إلى رئاسة الوزراء فى مارس الماضى، محمولاً على أعناق الثوار بميدان التحرير.. "شرف" نفسه لم تطارده كوابيس أن يكون رحيله بهذه الطريقة، فلم يعد يصفه الثوار والنخب السياسية بأنه رئيس حكومة الثورة، وصار من وجهة نظرهم "رئيس وزراء بلا صلاحيات ولا برامج ولا حلول".
كل الدلائل كانت تشير إلى انتهاء شهر العسل بين الحكومة والثوار والقوى السياسية والحزبية بكافة ميولها وتوجهاتها، ونشطاء "فيس بوك و"تويتر" بعد فترة قصيرة من توليها تسيير أعمال البلاد.. المجلس العسكرى وحده هو الذى كان يميل إلى هذه الحكومة التى وجدها "منتشية" بتصدرها للمشهد ووقوفها فى الصف الأول لصد رصاصات الانتقاد.
"الاستقالة" فى حد ذاتها ليست جديدة، فقد طلب "شرف" نفسه قبل شهور إعفاءه من حمل هذه التركة الثقيلة، لكن المجلس العسكرى فى كل مرة كان يعاند ويصر على استمرار الحكومة ضارباً بالمطالب الشعبية عرض الحائط.
لم تجد الحكومة مبرراً لبقائها، وكانت تعلم دائماً أن بقاءها مهدد، وأيامها معدودة، وتحديداً وقت أن تقدم الدكتور حازم الببلاوى، نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية، باستقالته فى 11 من شهر أكتوبر الماضى اعتراضاً على أحداث ماسبيرو، إلا أنه تراجع عنها بعد جلسة مغلقة جمعته بالمشير حسين طنطاوى صبيحة اليوم التالى، وذلك بعد أن أقنعه المشير بأن استقالته ستثير الشائعات وتضر بالاقتصاد القومى.
المشهد هذه المرة يتكرر، بعد أن أعلن الدكتور عماد أبو غازى، وزير الثقافة، استقالته السبت الماضى عقب انتهاء اجتماع مجلس الوزراء، وذلك اعتراضا منه على طريقة تعامل الشرطة مع المعتصمين بميدان التحرير، لكن أسامة هيكل وزير الإعلام أكد لـ"اليوم السابع" أن استقالة أبو غازى لم تكن سبباً فى التعجيل باستقالة الحكومة كاملة، فيما قال الدكتور جودة عبد الخالق وزير التضامن والعدالة الاجتماعية، عقب إعلان استقالة الحكومة، إن الحكومة مصرة على استقالتها "أمس واليوم وغداً".
مصادر مطلعة حضرت اجتماع مجلس الوزراء الأخير، أكدت لـ"اليوم السابع" أن الاجتماع شهد انقساماً شديداً وتبايناً فى الآراء حول وثيقة المبادئ الدستورية التى أعلن عنها "السلمى"، والتى رفضها السلفيون وجماعة الإخوان المسلمين، وقالت المصادر إن فايزة أبو النجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولى، اعترضت عن التراجع عن إقرار الوثيقة وعلقت على رفض الإسلاميين للوثيقة بقولها: "يخبطوا دماغهم فى الحيط"، وأنه من ضمن التيار المؤيد لـ"أبو النجا" وزراء التعليم العالى والإعلام والسياحة، فيما رفض الوثيقة كل من وزيرى المالية والرى.
وتقول المصادر إن "شرف" نفسه أبدى اعتراضه على هذه الوثيقة، وأكد للمجتمعين أنه وجد نفسه فى مأزق اضطره للدفاع عن الوثيقة، بعد أن نسبت للحكومة، وأنه-أى شرف- كان يرى فى بداية طرح الوثيقة بعد لقاء المجلس العسكرى مع "السلمى" أنه من غير المناسب طرحها فى هذا الوقت، وأنه كان يجب إعداد الدستور أولاً، وأنه كان يؤمن أمام الرفض العارم للوثيقة بأن إقرارها على هذا النحو سيكون بمثابة آخر مسمار فى نعش الحكومة.
عقب انتهاء اجتماع مجلس الوزراء، توجه الدكتور عصام شرف إلى المجلس العسكرى بكامل هيئة الحكومة، ولم يتخلف عن هذا الاجتماع سوى وزير الثقافة "المستقيل"، وقبيل انعقاد اجتماع "العسكرى" والحكومة" كانت نبرة الدكتور حازم الببلاوى مختلفة، وقال لـ"اليوم السابع": "مش هقدر أقوللك أى تصريحات دلوقتى لكن موضوع الاستقالة محتمل"، وبالفعل طلبت الحكومة إعفاءها من المسئولية، وأخبر "شرف" بعض المقربين إليه بأنه أصبح لا يحتمل أكثر من ذلك، وأنه يفكر فى إعلان الاستقالة من جانب واحد، لكن المقربين منه نصحوه بالتريث لأن هذه الأزمة ستمر مثل سابقيها.
صبيحة اليوم التالى، فشلت محاولات "شرف" فى إقناع وزير الثقافة فى العدول عن الاستقالة، وأمام الضغط الإعلامى المتزايد والإشادة بموقف "أبو غازى" فى وسائل الإعلام والصحف وشبكات التواصل الاجتماعى، كان "شرف" يتلقى تقارير لحظية من معاونيه الذين يتابعون هذه الوسائل، فقرر استدعاء نائبيه ووزراء الداخلية والعدل والسياحة والإعلام، وعقد معهم اجتماعاً لم يتم الإعلان عن تفاصيله وما دار فيه، فيما أعلن مكتبه بأنه لإدارة الأزمة الراهنة والتوترات بميدان التحرير، لكن بمجرد انتهاء الاجتماع تسربت أنباء عن تقدم وزير الداخلية باستقالته، ولم يخرج بيان رسمى من مجلس الوزراء بذلك، توجه بعدها "شرف" إلى مقر المجلس العسكرى، لبحث الخروج من الأزمة، فكان إصدار مرسوم قانون إفساد الحياة السياسية، بالونة اختبار ومحاولة لامتصاص الغضب الشعبى المتزايد، إلا أن إصدار القانون فى هذا التوقيت زاد من حدة التوتر، وأدى إلى كيل الاتهامات للمجلس العسكرى بأنه ينسف عملية إتمام الانتخابات بسلام، حيث إن القانون تأخر كثيراً وكان يجب أن يخرج قبل شهور.
عاد "شرف" إلى مجلس الوزراء، معتقداً أن ردود الأفعال حول إصدار القانون ستهدئ من سخونة الأحداث بميدان التحرير، إلا أن الأزمة تفاقمت، وظهر الارتباك على معاونى رئيس الوزراء، ولم يظهر متحدثه الرسمى ولم يجب على اتصالات الصحفيين المتكررة، غير أنه كان يرسل لهم بأن يظلوا فى أماكنهم بالمكتب الإعلامى ولا يبرحوا المجلس لأن هناك بيانات ستخرج إليهم، إلا أن البيانات كانت "مكررة" فقد أصدر المتحدث الرسمى بيانين، أحدهما لرئاسة شرف لاجتماع صندوق ضحايا الثورة بتاريخ قديم، والآخر نص مرسوم قانون إفساد الحياة السياسية الذى أصدره المجلس العسكرى ونشر بوسائل الإعلام قبلها بساعات، وهو ما أثار صحفيى المجلس وفتح شهيتهم للضحك والاستغراب.
ظل الارتباك قائماً، حتى التقى "شرف" مساء أمس الاثنين، 5 من شباب ميدان التحرير، وحسب مصدر مسئول فإن "شرف" استعلم من الشباب- الذين لم يسمّهم- عن رد فعل المعتصمين فى ميدان التحرير، فأخبروه بأنهم يطالبون بإقالة الحكومة، مؤكداً أن رئيس الوزراء طلب من الشباب التهدئة والتعبير عن مطالبهم بشكل سلمى، وعدم الإضرار بالمنشآت العامة لأنها ملك الدولة وليس الحكومة والمجلس العسكرى، مشيراً إلى أن اللقاء تطرق إلى جهود رئيس الوزراء خلال الفترة الماضية، وأنه منذ أن تولى المسئولية لا يطمع فى الاستمرار بمنصبه، وكان ينتظر حتى تجرى الانتخابات البرلمانية لتسليم المسئولية إلى حكومة منتخبة.
وحسب المصدر ذاته، فإن "شرف" أخبر الشباب فى ختام لقائه بهم، بأنه وضع استقالته والحكومة كاملة تحت تصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حتى لا يضع المجلس العسكرى فى مأزق بسبب الضغط الشعبى المتزايد والمطالب بإقالة الحكومة، مؤكداً أنه طلب إعفاءه من المسئولية أكثر من مرة، إلا أن المرحلة التى تمر بها مصر كانت تجعله يرضخ لوجهة نظر المجلس العسكرى حتى تمر هذه الفترة بسلام، وحتى لا يؤثر سحب الثقة من الحكومة على مسار العملية الانتخابية بوصفها الاستحقاق الأهم للعبور إلى الديمقراطية.
وأوضح المصدر أن هذا اللقاء هو الذى أدى إلى تسريب نبأ استقالة الحكومة قبيل الإعلان عنها رسميا من مجلس الوزراء بحوالى ربع الساعة، حيث أخبر الشباب زملاءهم المعتصمين بالميدان، والذين بثوا الخبر على شبكات التواصل الاجتماعى عبر الإنترنت.
بعد هذا اللقاء مباشرة، خرج السفير محمد حجازى، المتحدث الرسمى باسم مجلس الوزراء، ليعلن أن الحكومة وضعت استقالتها تحت تصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مشيرا فى مؤتمر صحفى عقد فى مجلس الوزراء، إلى أن الحكومة نظرا للظروف الصعبة التى تجتازها البلاد مستمرة فى أداء مهامها لحين البت فيها، مشيراً إلى أن الحكومة إذ تستشعر المسئولية السياسية، تعرب عن أسفها تجاه الأحداث المؤسفة خلال الأيام الماضية التى أدت إلى سقوط ضحايا ومصابين من المواطنين.
وعقب بث نبأ استقالة الحكومة، غادر الدكتور عصام شرف مقر مجلس الوزراء، وحرص قبل ركوبه سيارته متوجها إلى منزله، على مصافحة صحفيى مجلس الوزراء الذين التفوا حوله للحصول على تصريحات بشأن استقالة الحكومة، وكان رد المتحدث الرسمى لمجلس لوزراء، أن رئيس الوزراء مجهد، مناشداً الصحفيين المصافحة فقط، فى إشارة إلى مغادرة رئيس الوزارء مقر المجلس معتذراً عن عدم حضوره غداً، ظهر حراسه الشخصيون بغير زيهم الرسمى الذى اعتاد العاملون بمجلس الوزراء على رؤيتهم به.