غسيل الأدمغة
كثيراً ما نسمع في المجالس أو الصحافة أو الكتابات الإعلامية أو العلمية عن ما يسمى بغسيل الأدمغة brainwashing أو مترادفاتها مثل تغييب الشخصية أو تغييب العقل أو مسخ الشخصية أو تغيير المعتقدات والأفكار وغيرها، مما يجري من عمليات تتم بشكل قسري ودون إرادة من الأشخاص الذين يتعرّضون لها وما يتبعها من تأثيرات على الفرد والمجتمع.
فما هي عملية غسيل الأدمغة؟ وما أهدافها؟ وما هي تأثيراتها؟ وكيف يتم الوقاية منها؟
- في البداية أود الإشارة إلى أنّ أي عملية غسيل بالمفهوم الدارج تعني التنظيف وإزالة الأوساخ من مكان أو ثوب أو قطعة أو أرضية أو غيرها، مما يبدو أنه بحاجة إلى مثل هذه الرعاية، وفي هذه الحالة فإنّ هذه العملية مطلوبة ومرغوبة منطقاً وعرفاً وعقلاً وشرعاً.
أما بالمفهوم المتعارف عليه علمياً واصطلاحياً فنورد فيما يلي بعض التعريفات:
أولاً: عرفها كلٌ من (جرجس) و(حنا الله) في معجم المصطلحات التربوية (1998) بأنها تعبير مجازي يطلق على العملية التي يتعرّض لها الفرد فتجعله يغير أنماط سلوكه ومعاييره ويتقبل ما يفرضه عليه الآخرون وعملية إعادة تكييف شخص للأوضاع بعد تجربة فقد فيها إحساسه بالزمان والمكان، وجعلته عاجزاً عن معرفة هويته.
ثانياً: يعرف معتوق, (1993) غسيل الأدمغة بأنها (عملية حشو إعلامية تهدف إلى استبدال معلومات الفرد بأخرى إيديولوجية, من خلال حملات إعلامية مكثفة وطويلة الأمد لكن زيف هذه الحملات سرعان ما يظهر عاجلاً أم آجلاً).
ثالثاً: ويعرف عبد الله، (1997م) غسيل المخ أو الأدمغة بأنه (اصطلاح تشبيهي وهو العملية التي يقصد بها تحويل الفرد عن اتجاهاته وقيمه وأنماطه السلوكية وقناعاته وتبنِّيه لقيم أخرى جديدة تفرض عليه ممن يأسره، فغسيل المخ هو محاولة تغيير الاتجاهات النفسية وهو محاولة لتوجيه الفكر الإنساني ضد ما سبق أن اتخذ من عقائد وميول وهو إعادة تعليم وتحويل من إيمان بعقيدة معينة إلى كفر بها وإيمان بنقيضها).
رابعاً: ويعرف هذه العملية قاموس ويبستر (2000م) Webster بأنها (ترجمة لمصطلح صيني يشير إلى قسر معتقد لجعل شخص ما يستسلم لاتجاهات ومعتقدات سياسية واجتماعية دينية ويقبل أفكاراً مضادة).
خامساً: أما زيمباردو (Zimbardo ) عالم النفس الشهير ورئيس الجمعية الأمريكية لعلم النفس لفترة سابقه، فقد عرف غسيل الأدمغة بأنه ضبط لعقول الجماعات الدينية وما تعتقد به، أي انه يعني ما هو معتاد من فنيات واستراتيجيات توظف للتأثير الجماعي.
وهكذا فإنه من التعاريف السابقة يمكن أن نستخلص أن عملية غسيل الأدمغة هي تحويل الفكر والمعتقد بطرق غير مشروعة إلى فكر أو معتقد بغرض تبنِّي الفكر الجديد وسلوك ما يناسب معه ويتم ذلك تحت القسر والتخويف والتهديد.
* الذي يعني تنظيف المخ، وذلك بعد أن حصل هنتر على معلوماته من مخبرين صينيين على إثر انتهاء الحرب الكورية.
واقترن اصطلاح غسل الدماغ بالأساليب الكورية الصينية لتحوير أفكار الآخرين وتغيير اتجاهاتهم. أما الصينيون أنفسهم فقد كانوا يطلقون مصطلح تقويم أو إعادة بناء الأفكار Thought reconstruction على محاولاتهم تلك التي اعتبروها برنامجاً تثقيفياً عاماً. وما لبث موضوع غسيل الدماغ أن أصبح موضوع اهتمام ودراسة وبحث من العلماء في كافة المجالات من الخبراء العسكريين والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع وخبراء علم الإنسان (الانثروبولوجيا) وعلماء الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء).
وقد أصبح هذا الاصطلاح عاماً وشاملاً يشير إلى كل وسيلة تقنية مخططة ترمي إلى تحويل الفكر والسلوك البشري ضد إرادته وسابق تفكيره ومعلوماته. وأصبح الآن يحمل معاني أعم وأشمل وأكثر وضوحاً مثل التحوير الفكري أو المذهبة أو الإقناع الخفي Hidden persuasion
ومن الأمثلة على عملية غسيل الأدمغة إننا نتعرّض لعمليات غسيل الأدمغة وفقاً للتعاريف السابقة سواء كنا أفراداً أو جماعات، وهذه العمليات تتم يومياً بشكل مقصود أو غير مقصود وأن قنوات التأثير مختلفة وعديدة ومتجددة من قنوات فضائية وشبكات عنكبوتيه أو دورات دعائية وإعلانية مختلفة ومتجددة في عمليات الحياة اليومية المختلفة مثل البيع والشراء والسفر والالتحاق بالمدارس والجامعات والسياحة والعلاج وغيرها، وأصبح الكثير منا ينجر وينقاد للاستهلاك والتغيير بدون تفكير وتدبر.
ونورد فيما يلي بعض الأمثلة على ما جرى ويجري تحت ما يسمّى بغسيل الأدمغة المنظمة والمقصودة.
1- ما حدث بين عامي 1936 وعام 1938م من محاكمة موسكو (المحاكمة البلشفية) حيث تمت محاكمة القادة المشهورين بجرائم بشعة لم يرتكبوها ولكنهم اعترفوا بارتكابها بعد أن تبنّوا وجهة نظر محاكميهم مما سبب إزعاج ولفت نظر العالم في الخارج.
2- ما وقع للجنود الأمريكيين في الحرب الكورية عام 1953م، حيث تعاونوا على الأقل في الظاهر مع خصومهم وتبنّوا الفكر الشيوعي واعترافات الجنود الأمريكيين المثيرة للصينيين في الحرب الكورية، حيث أرغم الأمريكيين على الاعتراف باستخدام الحرب البيولوجية ضد الشيوعيين، وقد استخدم الصينيون فنيات معيّنة حيث قسّموا الجنود إلى مجموعات من 10 إلى 15 مع استبعاد القادة والفروق العرقية والرتبية، وجعلهم يبدون متساوين في الإخوة ثم تعرّضوا بعد ذلك إلى طرق مختلفة من التعامل والمعيشة وأسلوب التفاعل، وخلال تلك العملين كلها حاول الصينيون أن يجنّدوا عدداً منهم إلى جماعات سلام، وذلك بلعب دور في تعليم المبادئ الشيوعية وكذلك منع محاولة المقاومة من الآخرين وذلك من خلال إشراكهم في إنتاج منشورات دعائية لدعم السبب، وهكذا استخدم الصينيون طريقتين: الأولى مباشرة من خلال المحاضرات اليومية التي تستغرق ساعتين إلى ثلاث ساعات وتحتوي على تركيز الحط من قدرة الأمم المتحدة على وجه الخصوص، وفي المقابل الإشادة بالدول والمجتمعات الشيوعية ومن ثم إجبار السجناء على التوقيع على معاريض واعترافات بذلك. بل والظهور في الإذاعة في أحاديث وخطب تدعو للسلام. أما الطريقة الثانية فكانت عبارة عن أسئلة وإجابات معتمدة على فنيات الجيش الأمريكي والتي تركز بشكل مكثف على الضغوط النفسية وهذه الضغوط أحياناً تستغرق أسبوعاً كاملاً، وهكذا استخدم الصينيون طريقة المكافأة والعقاب بحسب أنواع الاستجابات التي يقدمه الجنود الأمريكيون ولسنا بصدد تقييم طريقة الصينيين في غسيل الأدمغة ومدى نجاحها من عدمه.
3- أما الحدث الذي لفت أنظار العالم لفترة طويلة من الزمن فهو القصة التي حدثت في ما بين 18 نوفمبر من عام 1978م في مدينة جونز تاون Jonestoen في قوايانا Guyana حيث تناول 913 فرداً من أتباع القس الأمريكي جيم جونس Jim Jones سماً وماتوا جميعاً. وقد أثار ولاء وطاعة التابعين لذلك القس أنظار العالم من علماء وباحثين حيث تصرفوا على ذلك النحو وما هي الغايات والأسباب التي جعلت الجميع يعتقد ويؤمن بها لتلك النهاية المؤسفة؟
وهي في تلك الأحوال كما ذكر ريستون (1981م، Ryston) بأنها عملية إساءة لاستخدام الدين ونحن نرى أنّ هناك العديد من الأمثلة المشابهة لهذه الحادثة قد تتالت عبر التاريخ باسم الدين وهو في الواقع انحراف عن تعاليم الدين الحقيقية السامية والتي تؤكد على أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً.
4- ما حدث ويحدث في الحروب بين إسرائيل والعرب أو بين العراق وإيران أو في أي مكان في العالم من تأثيرات على المساجين والمعتقلين أو في الحروب الأخيرة أو في السجون مثل سجن أبو غريب وغوانتاناموا في كوبا وغيرها.
وإذا أردنا الإجابة عن التساؤل الخاص بممارسة غسيل الأدمغة في الحياة اليومية وهل هي عملية من التعقيد فلا تمارس إلا في المعتقلات والسجون وبحيث يتم الترتيب والتخطيط لها وتنفيذها في أجواء وأماكن محددة؟ فإننا يجب أن نؤكد أنّ تلك العملية وإن كانت ولا تزال تمارس في الظروف المشار إليها إلا أنها كذلك تمارس في الواقع وتتم في الحياة اليومية وبشكل منظم ويمكن أن نقع نحن المتعلمين أو المثقفين تحت تأثيرها فهي تمارس عبر وسائل الإعلام المختلفة من مرئية ومسموعة ومكتوبة في الأخبار وفي المحاضرات، في الندوات في الدعايات، في المسلسلات، وفي اللقاءات وغيرها، وقد وقع ويقع الكثير منا ضحية لها مثل مصائد الأسهم والاستثمارات العقارية والشائعات المختلفة والتي كان آخرها شائعات مكائن سنجر.
إنّ كثيراً من المنتجين والمسوقين للسلع وللبرامج والمواد الغذائية والمشاريع يروجون لها بألوان مختلفة من الأساليب التي تتأثر بنظريات علم النفس والعلوم الأخرى ويستفيد كثير منها من الأساليب الدينية المختلفة لتحقيق الأغراض النبيلة أو الدينية سواء على الأفراد أو المجتمعات.
ويقول عالم النفس الأمريكي زيمباردو 1989 Zimbardo في هذا الخصوص (أنه مهما حاول عضو من جماعة من الجماعات في عمل أي شيء للتأثير على الآخرين .. فلن يتم ذلك إلاّ بعد ... أن يتأثروا وينظموا بشكل فعلي لما يتم الترويج له فكراً أو معتقداً. وإن الأغلبية من الأفراد المتوسطي الذكاء والعاديين يمكن أن ينقادوا إلى أفعال غير أخلاقية وغير عقلانية بل وعدوانية ومدمرة, وهي أفعال تكون مناقضة لقيمهم وشخصياتهم، وذلك يتم ويحدث حينما تمارس القوة تحت ظروف ومواقف معينة على استعدادات الأفراد).
أما على صعيد تأثر الجماعات المتطرفة واستخدامها المختلفة لعملية أو عمليات غسيل الأدمغة على وجه الخصوص فيمكن إيراد بعض الأمثلة من نتائج ودراسات مسحية.
1- فتذكر سينقر (1996م، Singer ) أن حوالي خمسة آلاف من الاقتصاديين والسياسيين والجماعات الدينية تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية في وقت معين ويتبع لها مليونان ونصف من الأعضاء. وأنه خلال العشر سنوات الماضية قد استخدمت الجماعات الدينية أساليب قسر مختلفة للتحكم السلبي في عقول ما يعادل عشرين مليون ضحية, بل وأن الأرقام تزداد عالمياً بشكل أكبر.
2- من خلال عينة قوامها 383 راشداً من مناطق مختلفة من غرب الولايات المتحدة قال 78% أنهم يعتقدون في عملية معينة جرت ضدهم.
3- ومن أمثلة ممارسات غسيل الأدمغة ما قام به القس الهندي Rajneesh في ولاية أوريجون Orgeon (1994م, Richardson) بسلب عقول العديد من الأتباع وتحويلهم إلى قطيع في مملكته المزعومة والتحكم فيهم بشكل لافت للنظر وقد تم غسل أدمغتهم، وغير ذلك من الأمثلة التي تجري في العالم بأسرة وفي المجتمعات المختلفة التي يوجد بها منظمات أو مؤسسات إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية تقوم بإغراء وإغواء الكثير من الأفراد شباباً أو شيباً بالدخول في معتقداتها أو فلسفاتها بطرق قسرية وفي أحيان غير أخلاقيه .......
وإن أكثر من يستخدم غسيل الأدمغة هو ما يسمّى بالجماعات الدينية Cults كما سبق أن ذكرت، حيث تعود إلى استخدامات غير أخلاقية لمناهج ووسائل الإقناع Persuasion Methods بهدف جلب الناس إلى المشاركة في جماعة أو حركة أو سبب. وإن سيطرة الجماعات الدينية على العقول لا تختلف نوعية عن تلك السيطرة اليومية إلا في الحجم والمقاومة والزمن والمدى. وإن واحدة من الاختلافات هي في الجهود الكبرى لحجب الخروج من المجموعة، بالإضافة إلى التكاليف المرتفعة للخروج منها وكذلك أعباء الخوف من الإيذاء والفشل والعزلة.