واحد من كتب الصديق برهان غليون الأولى حمل عنوان "اغتيال العقل". غليون أصدر كتابه ذاك في الثمانينيات, آملاً تقديم مساهمة لإيقاف ممارسة اغتيال العقل في حاضرنا العربي. من ذلك العقد وحتى الآن ما حدث هو العكس تماماً. تفاقم اغتيال العقل عندنا, ونمت على جثته ثقافة شعبوية طافحة بالسطحية والشعاراتية والصراخ العالي. في ثمانينيات القرن الماضي كان الاغتيال يتم بوسائل مختلفة, وأحياناً بصمت. اليوم يتم علناً وبتبجح مغرور وبأوسع نطاق... في صحفنا, وإذاعاتنا, وعلى شاشات تلفزيوناتنا صباح مساء.
درس التاريخ القاسي يقول إنه عندما يجتاح التخلف منطقة ما أو حضارة ما أو زمناً ما، فإنه لا يترك جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية إلا ويطاله ويرسم عليه توقيعه. وعندما تجتاح النهضة منطقة ما أو حضارة ما أو زمناً ما فإنها أيضاً تطال كل الجوانب. أول الجوانب التي يتم اجتياحها من قبل التخلف أو النهضة هو العقل, لأنه مناط الأمر كله. في حالتنا, قاد العقل حقب نهضتنا المتقطعة, أموياً, عباسياً, مغاربياً, وأندلسياً. وعندما اغتيل وأجبر تحت وطأة ضربات التخلف المتلاحقة على أن يتخلى عن المهمة الأكثر عبقرية له وهي النقد والمساءلة, صرنا نعيش بلا عقل, أو بعقل مُغتال, أو عقل متخلف. أول مظاهر تخلف العقل رفضه حتى الاعتراف بحالة التخلف التي تجتاحه وتجتاح الفضاء الذي يعيش فيه. فعوض أن يبدأ في مساءلة أسباب هذا التخلف والغوص فيها, ينحو اتجاه إنكار تخلفه جملة وتفصيلاً بل واتهام من يضع إصبعه على ذلك التخلف ويشير إليه. يتمنطق المدافعون عن حالة التخلف, بمسميات شتى, بشعارات شعبوية ويستندون إلى قاعدة شعبية عريضة هي الأخرى يجرح كبرياءها النرجسي أن تعترف بالتخلف كخطوة أولى في طريق الإصلاح الذاتي ومواجهة الأسباب العميقة التي تقف وراءه.
تخلفنا المشتهر كعرب في الوقت الراهن أجلى من أن يُشار إليه. فنحن في ذيل قوائم الدول في معظم المؤشرات: في التنمية البشرية, في نسب التمدرس والتعليم, في الإنتاج الاقتصادي, في الابتكارات العلمية, في الإبداع الفني والأدبي, في القدرات العسكرية, في التصنيع, في الإدارة ... وفي إصدار الكتب والاهتمام بها. خطاباتنا الفكرية والسياسية جلها شعبوي مسطح ينتجه أشباه مثقفين مسطحين. وقليل تلك الخطابات عقلاني يأخذ بالاعتبار معطيات القضايا الموضوعية بعيداً عن شبق انتزاع التصفيق والطرب على صيحات الإعجاب من جموع طحنتها الهزائم والفشل الداخلي، وصارت تركض بيأس وراء كل شعار. أي خطاب "يتجرأ" أن يكون عقلانياً بعض الشيء، يُصنف على أنه "خطاب ضد الأمة" وصاحبه عميل أو مرتزق أو متغرب. كل من يرفض أن يتم اغتيال عقله أو أن يسلم بثقافة القطيع، تتم إحالته مبكراً على التقاعد من قبل أصحاب النفوذ والقرار. لو عاش بين ظهرانينا هذه الأيام إبو حيان التوحيدي, وأبو تمام, وابن مسكوية, والمعري, وابن سينا, والمتنبي, والرازي, والفارابي, وابن رشد, وابن حزم, وكل الذين نُفاخر الغرب بهم وبما أنتجوه للعالم، لتم قص عقولهم عقلاً عقلاً واغتيالهم علناً على مقصلة الاتهام بأن خطاباتهم هي "ضد الأمة"!
إذا أشار باحث بأسى وبقلب وعقل حريصين إلى أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي والأكاديمي في كل العالم العربي لا تتجاوز 0.4% بينما تبلغ في كوبا مثلاُ 1.26% وفي إسرائيل 2.4% تقريباً, اتهم بأنه يخدم أعداء الأمة ويقدم لهم عتاداً يستخدمونه لإثبات تخلف العرب عن واقع عالم اليوم: وكأن ذاك التخلف سر يحتاج إلى كشف واكتشاف. وإذا صاح مخلص أن هناك 70 مليون أمي في بلاد العرب اليوم, وأن نسبة الأمية تصل في بعض البلدان العربية إلى أكثر من 50% يُتهم بذات التهمة. وعندما تورد تقارير التنمية الإنسانية العربية نسباً مخيفة عن تخلفنا في كل شيء بما في ذلك إصدار الكتب والترجمة, إذ ترجم العرب ومنذ عهد المأمون وحتى الآن ما ترجمته أسبانيا في عام, تنهال عليها وعلى كاتبيها كل أصناف التهم.
وإذا انتقد كاتب ما أحد رجال الدين الذين صارت تُضفى عليهم هالة من القداسة، لم يتمتع بها حتى الصحابة، فإنه يُساق إلى مقصلة التهم الجاهزة التي لا ترحم. الثقافة التي قال أحد أعرابها لأحد أهم خلفائها على مسمع ومرأى كل الناس: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا, ما عادت تسمح حتى بنقد رجل دين, ناهيك عن انتقاد الزعيم نفسه أو تصحيح اعوجاجه! وإذا أراد أحد تقليب موقف سياسي على أكثر من وجه, وتأمل مضاره وفوائده على قاعدة المصلحة وبعيداً عن الشعارات الرنانة, يسقط مرة أخرى في شراك "الكتابة المعادية للأمة". ترسيمة برهان غليون حول "اغتيال العقل" صارت هي الممارسة اليومية على يد الثقافة الشعبوية, وعلى يد المثقفين الشعبويين الذين يتقنون فن إطراب الجموع الغفيرة, ويطربون لتصفيقها.
ماذا يفعل الرافضون اغتيال عقولهم أمام طوفان الثقافة الشعبوية وأنصارها؟ وماذا يفعلون والمنابر بالتعريف لا تستقبل إلا الخطباء المفوهين الذي يعزفون كل الأنغام النشاز سوى نغم العقل والتأمل والتفكير. ماذا يفعلون والفضاء العربي يعج بناس بسطاء تحبط نصفهم الأمية الأبجدية، فلا يفكون الحرف أصلاً, وتعصف بنصفهم القارئ أمية ثقافية تجعلهم يتساوون مع من لا يقرؤون. وهؤلاء وأولئك يصفقون لمن يتلاعب بالعواطف ويخلق انتصارات زائفة, بائعاً الوهم على عتبات اليأس والإحباط الشعبي.
وماذا يفعل أولئك الذين لا يركضون وراء الشعبوية ولا يزعمون امتلاك الحقيقة؟ والجواب التام المطبق لألف ألف سؤال تحدق بحاضرنا ومستقبلنا. كل ما يملكونه هو الدعوة لمزيد من التفكير، لأن الأسئلة مفتوحة دوماً, وإغلاق الأسئلة معناه الانسياق في مسارب الديكتاتورية الفكرية والسياسية والثقافية. الذين ينحازون لعقولهم يقولون إن لكل مسألة سياسية أو اجتماعية مطروحة أوجهاً عدة ليس فيها ما هو أبيض تام البياض أو أسود تام السواد. لكن الذين اغتالوا عقولهم طوعاً يرفضون تعدد الألوان وخاصة الرمادي منها. يريدون وصفة سريعة وجاهزة وقابلة للتسويق في صفوف أميين كثر يعجبهم بياض البياض أو سواد السواد ويصفقون لتفنن هذا الشعبوي أو ذاك في رسم اللونين الاثنين وحسب, كأنهما ملخص الحياة