"قلما يوشوش عالم النبات إلا قليلاً قليلاً إلى أن تهب زوبعة فتجعل موسيقى الدنيا كلها تتجاوب. من لا يعرف الغابة التشيلية، فهو لم يطأ هذا الكوكب الأرضي. من تلك الأراضي، من ذاك الطين، من ذاك السكون، خرجت أنا لأسير، لأغني عبر الكون. سوف أشرع بالكلام عن أيام طفولتي وأعوامها قائلاً؛ غن المطر كان لي الشخصية الوحيدة التي لا أنساها. مطر القطب الجنوبي الغزير الذي يهطل مثل شلال من قطب "بولو" ينحدر من سماء "كابودي هورنوس" حتى سماء الثغر. في هذا الثغر، أو "فارديست" بالنسبة لوطني، ولدت الحياة، للأرض، للشعر والمطر. مع أنني قد تجولت كثيراً فإنه يبدو لي أنه قد ضاع من الأمطار هذا الذي كان يمارس وكأنه موهبة متسلطة هائلة بارعة، في أراضي، أرض "أروكانيا". كانت السماء تمطر خلال شهور بكاملها، أعوام بأسرها، كان المطر يتدلى خيطاناً كأنها إبر طويلة من البلور يتكسر على أسطحة المنازل، أو أنه يستحيل أمواجاً شفافة تلطم النوافذ، وكانت كل دار كأنها سفينة لا تبلغ الميناء إلا بشق الأنفس والجهد الجهيد في ذلك المحيط الشتائي... تجاه داري، الشارع أمسى بحراً هائلاً من الوحول، أرى عبر النافذة من خلال المطر عربة قد أوحلت في وسط الشارع، وهناك فلاح ملتف بعباءة سوداء يسوّط الثيران التي لم تعد تقوى على المضي بين المطر والوحل. لقد كنا نتوجه إلى المدرسة عبر الدروب، ننقل الخطى من حجر إلى حجر، متعرضين للبرد والمطر... والداي هما من بلدة "بارّال" حيث ولدت أنا هناك في وسط تشيلي، تنمو الكرمة ويكثر النبيذ، من غير أن أذكر، دون أن أعرف إن كنت نظرت إليها مرة بعينيّ، ماتت أمي السيدة "روسا باسوالتو" أنا ولدت في الثاني عشر من شهر تموز (يوليو) من عام 1904، بعد شهر، في آب/أغسطس، هلكت أمي بمرض السل، لم تعد توجد... لست أرى جيداً في هذه المذكرات تتابع الزمن وتسلسل الحوادث بدقة ونظام... تتشابك في مخيلتي وتتراكم أحداث كثيرة كانت ذات أهمية بالنسبة لي، ويبدو لي أن هذه الحادثة الممتزجة بشكل غريب بالتاريخ الطبيعي هي أولى مغامراتي الهزلية، ربما كان الحب والطبيعة منذ مطلع حياتي هما فلزات شعري". تلك لمحة عن ذكريات الشاعر بابلو نيرودا التي ساقها في هذه المذكرات "أعترف بأنني قد عشت". إن مذكرات كاتب المذكرات ليست هي لشاعر، ذاك ربما عاش أقل من الشاعر، لكنه التقط صوراً أكثر منه فهو لذلك يمتعنا بالجزئيات المتقنة المهذبة، بينما الشاعر يمنحنا معرضاً من الأشباح المهتزة المتراوحة بين النار والظل كانعكاس لعصر الشاعر. فهو يقول: "ربما أني لم أعش في ذاتي، ربما عشت حيوات الآخرين. بقدر ما استودعت هذه الصفحات من كتابة ستجدد دائماً، كما في غيل الخريف وكما في موسم الكرامة، الأوراق الصفراء التي تروح تموت والأعناب التي ستنبعث في النبيذ المقدسي. حياتي هي حياة صيغت من كل الحيوات: حيوات الشاعر.
المؤلف:
"إن هذه المذكرات أو الذكريات متقطعة تتناول على فترات كثيرة السهو والنسيان لأنه هكذا سنة الحياة. أن تعاقب الحلم يجعلنا نقوى على تحمل مشتقات العمل. حين أستحضر الذكريات أجد أن كثيراً منها قد امّحى وعفا وغدا عباراً ليس يهدأ كمثل زجاج جريح ليس يبرأ". إن مذكرات كاتب المذكرات ليست مذكرات الشاعر، ذاك ربما عاش أقل من الشاعر، لكنه التقط صوراً أكثر منه فهو لذلك يمتعنا بالجزئيات المتقنة المهذبة، بينما الشاعر يمنحنا معرضاً من الأشباح المهتزة المتراوحة بين النار والظل كانعكاس لعصر الشاعر. ربما أني لم أعش في ذاتي، ربما أني عشت حيوات الآخرين. بقدر ما استودعت هذه الصفحات من كتابة ستجود دائماً-كما في غيل الخريف وكما في موسم الكرمة-الأوراق الصفراء التي تروح تموت والأعناب التي ستنبعث في النبيذ المقدس. حياتي هي حياة صيغت من كل الحيوات: حيوات الشاعر.