كأنَّ جهاز الموساد الصهيوني ، وهو وكر الشيطان بعينه ، لم يُؤسـس إلاَّ ليجعل الألـم هو وحـده سيّد الموقـف في حياة الفلسطينيين ، كذا العذاب ، و المعاناة ، و القتل ، والإغتيـالات ، إنه كاسمه ( ألمـ ) و(سـاد) ،
لكن يبدو أنـّه قـد أصابه الخرف أخيرا ، فتسللت الشيخوخة إلى دماغه ، والرعشة إلـى جسده المتهالك ، ولهذا فشل فشلا ذريعا في عملية إغتيال الشهـيد المبحوح رحمه الله ، إذ جعل الكلفـة أعلى بكثيـر مما يحتمله الكيان الصهيوني ، والفضيحة أشد وطأة عليه مما لو ترك المبحوح وشأنه ، وقد ترك وراءه صورة لكلِّ فضيحة ، فمشكلة سياسية عويصـة وراء كلِّ صـورة .
لكـن تعالوا .. دعونـا لاننسـى .. دعونا لانخدع أنفسنا ، فالموساد لايتحرك من فراغ ، ولا يغـرد خارج السـرب ، فليس هو إلاَّ أحد المؤسسات السريِّة للاستعمار الجديد الذي إنطلق القرن الماضي ، واكتملت صورته بعد حرب الخليج قبل عقدين ، وكم يعجبني قول جارودي في أوائــل كتابه البديع (حفارو القبور ) : ( عام 1992م سجلت حرب الخليج ، استكمال العمل الذي بدأ في عام 1492م ، وهو انقسام العالم إلى نصفين ، وكشف تدمير العراق ، عن حرب من نوع جديد ، حرب قائمة ليس فقط على دول أوربية متنافسة ، مثل ما كان من إنجلترا وفرنسا ، لكن عن استعمار جماعي متعدد الجنسيات ، متآلف تحت سيطرة الأقوى : الولايات المتحدة الأمريكية ، إنها أول حرب استعمارية عالمية ، حرب تحالف كلَّ المستعمرين القدامى دون إستثناء ، ومعهم عملاؤهم التقليديون المشتَروْن ، والمجندون في المواقع ) .
نعم إنَّ إغتيال المبحـوح ـ في مشروع سري يجري على قدم وساق للقيام بإغتيالات كثيرة في المنطقـة ـ هـو جزء من هذا الشـرِّ المستطيـر ، ولم يورِّث المسيري ـ رحمه الله ـ في ميراثه الذي لايقدر بثمن عن (الصهيونية ) ، كلمة أصدق من قوله : إنَّ الكيان الصهيوني ليس سـوى جماعة وظيفية للإمبريالية الغربية ، لتحقق له أهدافه ، وليس العكس كما يظن الكثيرون .
وكذّاب هـو ديفيد ميليباند ، وزير خارجية بريطانيا ، وأكـذب منـه هـو فاليرو المتحدث باسم الخارجية الفرنسية ، فلم يسؤْهما قـط ، ما فعله الصهاينة من قرصنة على جوازات البلدين ، في عملية الاغتيال ، وليس ما يقولانه على وسائل الإعلام من طلب توضيحات من الصهاينة ، أو تهديد بوقف التعاون الإستخبارتي ، إلاَّ لذر الرماد في العيـون ، بعدما حدث غير المتوقع من إنكشاف الصور ، والمعلومات بهذه السرعة أمام العالم .
كذب هذان المأفـونان ، ولكن صدق من قال : إنَّ الفضيحة صارت مدويـّة ، وسيكون لها تبعات على الصهاينة ، مثلما حدث لهم بعد حربهم على غزة ، وكلُّ ذلك إيذانٌ بما ذكرنـاه مرارا ، من دلائل كثيـرة تدلّ على قرب نهاية الكيان الصهيوني ، ومثله الهيمنة الأمريكية العالمية .
وإنـَّه لمن من عجائب المقادير ، إقتران فضيحة سلطة عباس ، بفضيحة الموساد ، في أسبوع واحـد ، فهـو بحق أسبوع الفضائح بالنسبة لأولئك الشياطين.
وليتأمل العاقل البون الشاسع بين تضحيـات القسَّام ـ الجناح العسكري لحركة حماس ـ التي تمثلـت بإستشهاد أحد مؤسسيها ، وهو الشهيد المبحوح ، فعطـَّرت روحه الطاهرة ، قـلوب جميـع الشـرفاء في فلسطين خاصة ، والعالم الإسلامي عامة ، في نفس الأسبوع الذي ينشر فيه ( شبانه ) الذي ( شـبَّ ) نـار فضائـح سلطة عباس ، ينشـر أفلامه ، ووثائقه ، فأزكمـت الأنـوف ، ولطخـت صورة النضال الفلسطيني .
ولاريـب أن إنكشاف فضيحة (الجوازات الأوربية) بهذه السرعة ، والإنتشار الإعلامي ، هو سبب التصريحات البريطانية ، والفرنسية المندّدة ، فإنَّ فشل عملية الاغتيال من أن تكون نظيفة ، وظهور الكيان الصهيوني عالميـا مستعملا جوازات أوربية ، في عملية قذرة ، انتهكت ببشاعة ، ووقاحـة ، كلِّ ما ينافق الغرب في إظهار احترامه ، في وقت يعلن فيه الغـرب حربا لاهوادة فيها على ما أسماه ( الإرهاب الإسلامي الذي يهدد العلاقات بين الدول ، والسلم الدولي ) ، هذا كلُّه قـد أوقع الأوربيون في (حيص بيص ) ، ويُتوقـع أن يزداد تأزم المشكلة .
ولقد عُقدت مؤتمرات كثيرة تتحدث عن انتهاكات الصهاينة لكلِّ القوانين الدولية ، لكشف حقيقتها ، وخصـَّت الموساد بأبحاث كثيرة ، فلم تصنع شيئا يذكر ، كما صنعه دم الشهـيد القائد القسَّامي المبحوح .
ولقد رأينا خاصية عجيبة في الجهاد الفلسطيني المبارك ، وهو أنـّه كلَّما استشهد قائد ، قام بعـده أسـودٌ تجـاهد ، وكلّما اشتدت الوطأة على الجهاد ، إزداد من القوة ، والبأس ، والرشاد ، فبعد شهداء انتفاضة الحجارة ، جاءت انتفاضة العمليات الاستشهادية ، وبعد استشهاد ياسين ، تمـَّت السيطرة على غزة ، وبعد حرب الفـرقان ، أظهر الله تعالى نـقاء خط المقاومة ، وشهد العالم صدقه ، وصموده ، وإنتشـر في الناس دعمه ، وتأييده ، وانتشرت فضائح خط ( أوسلو ) خط الخنوع ، والاستسلام ، والذلّ .
وهكذا ما زالت بركات الجهاد ، يرينـا الله بها آياته ، ويكرم أمّتنا بكراماته .
وإذا كان بن غوريون يقول : ( هذه الدولة تختلف عن بقية دول العالم من حيث عناصر قيامها وأهدافها ) ، فقد صدق بن غوريون ، وإنه لكذوب ،
لأنهـا تختلف عن بقية دول العالم ، فهي ابن الحرام الذي ولد بالخطيئة ، ويعيش على الخطيئـة ، وهي كذلك تختلف بأنها ستكون أقصر دولة عمراً بإذن الله تعالى .
ولن يعجل بنهايتها إلاَّ دماء الشهداء ، وتضحيات الأبطال ، وصمـود المجاهـدين ، أمثال الشهيد المبحوح رحمه الله
والله تعالى حسبنا ، عليه توكلنا ، وعليه فلتوكل المتوكلون.