خالد الكساسبه
قبل عشرين عاما ،كنت قد تخرجت من الجامعة للتو ، كان صديقي سمير الحياري رئيس مجلس ادارة جريدة الرأي حاليا مراسلا لجريدة عكاظ السعودية في مكتبها في عمان ، زرت سمير في مكتبه في الشميساني ، المفاجأة الرائعة : توفيق النمري كان هناك ، سألته : غنى توفيق للاردن ، و لكن هل غنى النمري للاردني ؟ قبل ان يهم سمير بالإجابة ، كان النمري يعزف :" درب الراتب واحد و دروب السرقة مية ، موت يا مواطن ت يعيشوا الحرامية"
أعشق الحصن ، احب فيها ريفها و مدنيتها، كانت - و لازالت - تبهرني سهولها اثناء ترحلي من عمان - حيث بيتي- الى اربد- حيث اليرموك - الجامعة و الماضي الجميل و الرائعين الحالمين بالمستقبل و الجميلات السابحات نحو المستحيل ،احب الحصن ، احب فيها المساجد حين تعانق الكنائس ، مثلما اعشق فيها الارض حين يحولها أُناسهم - بطهرهم - الى سماء و ملائكتهم - بطيبتهم - يحولون الارض الى لوحة من حب و طهر و بعض الشئ من النقاء ، أحب في اهل الحصن : اخوتهم ، حين يكون الأنصار في الوادي و المهاجرين في اعالي الجبال يعيشون في مخيم عزمي المفتي و احبها لان جميل النمري منها مثلما صديقي المخلص جهاد ابو بيدر من ابناء مخيمها
من ( الخابية) و هي اناء من الفخار يشبه ما يعرف ب ( زير الماء) كان توفيق يضع رأسه في داخله و يغني ليمنح صوته احساسا موسيقيا متزايدا، ومن كنيسة الحصن التي كان يردد فيها التراتيل الدينية المستوحاة من الانجيل كانت بداية اكتشاف المحيطين به لموهبته المبكرة ، هكذا اخبرني عندما سألته : كيف لطفل فلاح في قرية اردنية أن يتجه للموسيقى في وقت كان فيه الناس لا يعرفون من الموسيقى الا الربابة
يقول الروائي الاردني العظيم تيسير سبول في (أنت منذ اليوم):"طاف رجل كل بلاد العالم لكنه لم ير شعبا مقهورا مليئا بالاحزان مثل شعبي" هذه الكلمات ذكرتني بأغنية توفيق النمري الممنوعة من البث على شاشة التلفزيون الاردني ،مت يا مواطن ليعيش من يقهرك ويعذبك ويسرق الفرح من اطفالك ،مت يا مواطن ليعيش السارقين، مت دهسا وانت تنتقل بين الباصات وسيارات السرفيس لتصل الى عملك ، مت كمدا وانت لا تستطيع ان تشتري حليب لابنك الرضيع، مت قهرا وانت تتمنى غير قادر ان تشتري معطفا يقي ابنك من قرص الشتاء،موت يا مواطن .. موت يا مواطن ، لا تنتظر ان يبيعوا كل شيء ،عائدات هذه (الشوامخ) ليست لي أو لك ، انها عمولات للمختزنين على حساب الوطن ،المتكرشين على حساب قوتك وقوتنا
أنظر الى مواطن (النمري) الميت واتسائل :هل يمكن ان يكون الوطن عاقا لابناءه الى هذا الحد ، في خانة المهنة في جواز السفر اذا كنت عاطلا عن العمل يكتبون (بلا)،هل يجوز ان نستبدلها ب(جائع)،(مقهور) ، (منحني)، (ميت) ، ( غريب في وطنه) ، و انظر الان الى ما جرى من اهمال مع النمري لاسيما في سنواته الاخيرة التي كان يصارع فيها المرضو أتساءل : لماذا تجور بلادنا على ابنائها المخلصين
كنت في زيارة ل(الاردن) قبل عام،طفت في الشوارع ،وجعلت انظر الى جميع الوجوه في الحافلة التي كانت تسير الى يميني ،سبعة وخمسون وجهها كانوا، لم ارها كلها، رايت اثنا عشر وجهها فقط، و الفقر والجوع تقهرها ، اثنا عشرة وجها لا تشبه بعضها الا في الفقر، لا تشبه بعضها الا في العوز، لا تشبه بعضها الا في المعاناة،ونظرت الى يساري كان سائق سيارة المرسيدس حديثة الموديل شابا وسيما يشع وجهه بالحياة ،رفيقته في الرحلة جميله مثل (باريس هيلتون) ،شقراء مثل( باريس هيلتون ) ،غنية مثل (باريس هيلتون).. فأنشدت مع النمري : " مت يا مواطن ت يعيشوا الحرامية"
بالأمس استمعت لاغنية توفيق مرة اخرى و ايقنت ان هذا الوطن ليس للفقراء،ليس للفلاحين، ليس لمن يعشقون خبز الصاج ودلة القهوة،ليس لمن يرنون الى( شيحان) جبلناالعالي،مثل جباهنا او (رم) وادينا السحيق ،مثل مصيرالذين ينظرون للاردن على انه محطة سفر تحملهم نحو الثراء، و للاردني العادي على انه سكة حديد لا ضير من السير عليها للوصول الى المحطة التالية
رحل عنا توفيق تاركا مكتبة هائلة من الاغاني التراثية و الفلكلورية الاردنية و بعض الكتب حول الموسيقى لن استطيع في مقال قصير ان اذكر اهميتها إنما اترك هذا للمختصين في الموسيقى و لكنني فقط تذكرت كل هذا بعد ان علمت برحيل شيخ الفنانين الاردنيين و صدى صوت المحرومين و الفقراء مثله مثل صديقه الشاعر (عرار) الذي كان له دورا كبيرا في تأثر توفيق بالمكان الاردني الذي بدا واضحا في اغانيه