تطوران اساسيان، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، وقعا في اليومين الماضيين في ليبيا يصعب علينا تجاهلهما وعدم التوقف عندهما، الاول هو صدور اعلان عن المجلس الوطني الانتقالي الليبي بدفن العقيد معمر القذافي ونجله المعتصم ووزير دفاعه ابو بكر يونس جابر في مكان مجهول وسط الصحراء، اما الثاني فهو كشف الدكتور علي الترهوني وزير النفط والمال في المجلس نفسه عن مناشدة حلف الناتو لتمديد فترة وجوده وعملياته في ليبيا ولو لفترة شهر على الأقل.
لا نفهم لماذا يصر المجلس، الذي احتفل قبل يومين بالانتصار على حكم نظام القذافي، و'التحرير' الكامل للتراب الليبي، على دفن جثمان العقيد في مكان مجهول وسط الصحراء، وفي سرية مطلقة، ورفض تسليمه لأسرته، او لقبيلته، مثلما تقتضي الاعراف والتقاليد العربية والاسلامية، اللهم الا اذا كان المجلس الانتقالي يخشى الرجل حتى وهو في قبره، وهو الذي يتمتع بدعم الحلف الاقوى في التاريخ.
المسؤولون في المجلس الوطني الانتقالي يبررون هذه السرية بالقول إنهم لا يريدون ان يتحول قبر الزعيم الليبي الراحل الى 'مزار' يحج اليه انصاره، وهذا ينطوي على تناقض كبير، فمفتي المجلس افتى بتكفير الرجل، واخراجه من ملة المسلمين، وحرم الصلاة على جثمانه بالتالي، أو دفنه على الطريقة الاسلامية، فكيف يتحول قبر رجل كافر الى مزار يشدّ اليه الرحال مسلمون ؟
الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كان اكثر خطورة في نظر الامريكان الذين احتلوا العراق وخسروا تريليون دولار وخمسة آلاف قتيل من اجل الاطاحة بنظامه، ومن ثم اعدامه، ومع ذلك لم يصدروا فتوى بتكفيره، ولم يقتلوه او يمثلوا بجثمانه، وقدموه الى المحاكمة، وان كانت محاكمة مزورة، وسلموا جثمانه لزعيم قبيلته، وسمحوا بدفنه في قبر واضح المعالم في مسقط رأسه في مدينة تكريت. فهل يعقل ان يكون 'الثوار' الليبيون اكثر قسوة وجبروتا من المحتل الامريكي؟
والأكثر من ذلك ان الامريكيين الذين قتلوا الشيخ اسامة بن لادن زعيم تنظيم 'القاعدة' بطريقة وحشية امام زوجاته وأطفاله، لم يكفروا الرجل، ولم يخرجوه من ملة الاسلام، بل حرصوا على التأكيد على انه حظي بمراسم دفن اسلامية، وبحضور إمام جُلب خصيصاً الى حاملة الطائرات التي نقل اليها في عرض البحر، حيث جرى غسل جثمانه والصلاة عليه قبل 'دفنه' في البحر.
' ' '
نحن لا نمتدح هنا الامريكيين، معاذ الله، فهؤلاء قتلوا مليون انسان مسلم في العراق الشقيق بعد احتلاله، ومزقوا وحدته الوطنية والترابية، ولكننا نظهر مدى الارتباك الذي يعمّ المجلس الانتقالي الليبي، والنزعات الثأرية والانتقامية التي تسيطر على رئاســـته وأعضــائه، وتدفعهم للتصرف بطريقة غير انسانية في التعاطي مع الزعيم الليبي الراحل وأبنائه وأنصاره.
فهل يعقل ان يوضع جثمان انسان مسلم نطــــق بالشهادتين فـــوق مرتبة قذرة ملطخة بالدماء، في حاوية مخصصة للخرفان، شبه عار، بينما تقوم نساء وأطفال بالفرجة عليه لأكثر من ثلاثة أيام، حتى تعفن وفاحت رائحته الكريهة، وشاهدنا 'الزوار' الشامتين يغلقون أنوفهم لتجنبها.. هل هذا من الاسلام وقيمه التي تنص على ستر الميت ودفنه في أسرع وقت ممكن؟
ثم لماذا يتم اعدام انصار الرجل وهم مسلمون جرحى، ومقيدو الأيدي، مثلما أفادت تقارير هيومان رايتس ووتش الامريكية، فهل هذه مواصفات ليبيا الجديدة الديمقراطية الحريصة على العدالة وحقوق الانسان التي يبشرنا المجلس الوطني الانتقالي بإقامتها في الأسابيع أو الأشهر المقبلة؟ أليست هذه الممارسات هي التي دفعت 'الثوار' للخروج على نظام العقيد، وحمل السلاح والاستعانة بحلف الناتو لإطاحة نظامه واقتلاعه من جذوره؟
وطالما اننا نتحدث عن حلف الناتو، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن الاسباب التي تدفع المجلس الانتقالي للتوسل الى هذا الحلف وقادته لتمديد فترة عملياتهم في ليبيا، ألا يدرك هؤلاء ان النظام الليبي سقط، وان قوات المجلس وثواره استولوا على جميع المدن الليبية، وان رأس النظام تعرّض للتصفية الجسدية، وأبشع أنواع الاهانات بعد اعدامه، ودفن جثمانه في بقعة مجهولة في الصحراء الليبية؟ فلماذا تبقى قوات الناتو، ومن أجل أي هدف، فهل يخشى المجلس الانتقالي ان يخرج القذافي وأنصاره من قبورهم شاهري السلاح لاستعادة حكمهم؟
ان هذه الممارسات تسيء الينا كعرب ومسلمين قبل ان تسيء لليبيا وشعبها، وتشوه صورتنا في نظر الشعوب الاخرى، وتظهرنا كأضحوكة وتجعلنا موضع سخرية الآخرين، مثلما تسيء الى الثورات الشعبية العربية الاخرى، سواء ما هو قائم منها او على وشك القيام، لاطاحة ديكتاتوريات قمعية فاسدة في عواصم عربية عديدة.
' ' '
اي ثقافة هذه التي تدفع اناسا من المفترض انهم عاقلون ومسلمون لإحضار أطفالهم لمشاهدة جثمان رجل ميت، والتقاط الصور له، فهل يمكن تربية اجيال على قيم الحقد والشماتة، وهل يمكن اقامة حكم رشيد ودولة القانون والقضاء العادل المستقل على أرضية سحل جثامين الخصوم والتمثيل بها، واخراجهم من الملّة وهم المسلمون العابدون؟
ليبيا تتعرض لأبشع أنواع التشويه والتزوير، مثلما ستتعرض لاحقاً لأعتى أنواع النهب والابتزاز على أيدي حكومات حلف الناتو، فها هم يطالبونها بتعويضات لأسر ضحايا الجيش الجمهوري الايرلندي البريطانيين، وضحايا تفجير ملهى لابيل الليلي الالماني، وربما غداً ضحايا جبهة مور الاسلامية في الفلبين، وربما الاسرائيليين الذين قتلوا بطائرات ليبية، كل هذا لان النظام السابق زوّد هذه المنظمات بالأسلحة والعتاد، اما ضحايانا في العراق وافغانستان، بل في ليبيا نفسها، الذين قتلوا في قصف طائرات الناتو فلا بواكي لهم، بل ممنوع ذكرهم.
العقيد القذافي كان ديكتاتوراً مستبداً دموياً بدّد ثروات البلاد على امجاده الشخصية، والحفنة الفاسدة الملتفة حوله ونظامه، وأكثر ما نخشاه ان تكون المرحلة القادمة اكثر سوءاً، حيث نرى عملية 'ابتزاز' واضحة للشعب الليبي من قبل القوى الاستعمارية التي جاءت لتحريره، بحيث يجد نفسه قد تخلص من طاغية اصغر ليقع في براثن طاغية اكبر.
المشهد الليبي الحالي لا يبعث على الاطمئنان، فمرحلة ما بعد 'التحرير' قد تكون أصعب كثيراً من تلك التي سبقتها، والمأمول ان تكون ليبيا الجديدة موحدة مستقرة، وأفضل كثيراً من ليبيا القديمة.
عبد الباري عطوان