بيت هادئ
عزيز نيسن
ت.فاروق مصطفى
قال: إنك تكتب بشكل ممتاز
خطر ببالي أن أردّ عليه الردّ التقليدي الذي يردّه الكتَّاب عندما تطرى أعمالهم، شكراً لكم لكني عدلت عن ذلك، وقلت
ـ بإمكاني أن أكتب ما هو أفضل، لكن البيت غير مناسب.
ـ كيف؟
ـ أفي ذلك كيف؟ البيت صغير، والأسرة كبيرة، والضجيج والضوضاء دائمين، وكما تعلمون فالكتابة عمل فكري يتطلّب هدوءاً.. في اللحظة التي يأتيك فيها الإلهام تماماً، يأتي الصغير شاكياً أخاه الكبير بابا انظر إلى هذا .. أبعده عني، يصرخ الأصغر منه، أسكته. يبدأ من هو أصغر، أثناءها يدخل الكبار ببعضهم.. ينتفخ رأسي، وطبعاً لا يمكن كتابة شيء مميز برأس منتفخ كالطنجرة.
سالني:
ـ كم ولداً لديك؟
ـ أحد عشر!
كنت أظن أنه سيقول لي (أدامهم الله) عندما ترامت إلى مسامعي كلمة هووش ش ش !
هل توجهون هذه الكلمة لي؟
استشطت غيظاً، وإذا كان قد قالها لي فسوف أدوسه بقدمي.
ـ أنت تأخذ الأمور دوماً على أنها موجهة إليك.
ـ لا يوجد أحد غيرنا، لذلك ظننت..
ـ الانفعال طبع سيء في المرء. فلو صدر صوت قبيح من محرك سيارة مارة في الطريق، يهجم الانفعالي على السيارة وهو يقول (أتوجّه هذا لي أو لك؟) خطر أحدهم ببالي فجأة، فقلت هوش. والآن لنعد إلى موضوع الأولاد.. إن أحد عشر ولداً كثير على الكاتب. بل إن ولداً واحداً كثير عليه.. على الكاتب أن لا يصنع أولاداً لأنهم يشغلون وقته.
ـ صنع الولد لا يستغرق وقتاً، لكن تربيته صعبة.
ـ يجب أن لا يكون للكاتب أولاد، لماذا؟ لأن كلَّ إنسان يستطيع أن يصنع أولاداً، لكن لا يستطيع كل إنسان أن يؤلِّف كتاباً.
ـ ماذا أفعل، لدي الآن أحد عشر ولداً، بل أحد عشر ولداً ونصف.. فهناك واحد على الطريق..
ـ كم من الزمن يستغرق إنجاز كتابك المميّز، فيما لو كنت تعيش في بيت لوحدك؟
ـ في رأسي أفكار كثيرة بحيث أستطيع إنجاز كتاب كل شهرين، لو تسنى لي بيت هادئ كما أريد.
ـ أعطيت وانتهيت.. إني أعطيك بيتي لمدة ستة أشهر.
ظننته في البداية يمزح، لكني صدقته عندما اصطحبني بسيارته إلى البيت، لم يكن بيتاً، كان قصراً فخماً، ذبت وتلاشيت عندما رأيته قال:
ـ نحن نمضي الشتاء في نيشان طاش، وقد انتقلنا إلى هناك البارحة، وهذا البيت لك لمدة ستة أشهر، حتى شهر أيار القادم، هيا أرني همّتك، أنجز كتابك القيّم لأراك.. وأكون بذلك قد ساهمت أنا أيضاً ولو قليلاً في الحركة الأدبية العالمية..
كنت مدهوشاً، قال وهو يغادر البيت:
ـ لي رجاء واحد فقط، إذ يوجد في الحديقة كلب حراسة كبير، وفي البيت جرو صغير، تعتني بهما، وهناك كناري في بهو البيت.
ـ أنا أحب الحيوانات.
ترك لي الرجل قصره الفخم ومشى. لو رأيت ذلك في الحلم لما صدقت. تجولت في أرجاء الحديقة أولاً، ثم في أنحاء القصر من أوله لآخره، كان يخيّم على المكان هدوء لا يوصف، هدوء تسمعه الآذان، وتراه العين.. هدوء يكاد يلمس باليد.
صعدت إلى الطابق العلوي، كان منظر المروج من فوق، جميلاً آسراً لا يمكن وصفه... بحيث قلت لنفسي عندما جلست إلى الطاولة:
ـ إيه! ولك هنا حتى الحمار يصبح شاعراً..
بهذه الحماسة تشبثت بقلمي، ولم يكن القلم قد مسّ الورق بعد، عندما رنّ جرسٌ. القصر كبير، نظرت هنا، ونظرت هناك، لم أعرف مصدر صوت الجرس.
بحثت في غرف الطابق العلوي أولاً، ولم أجد فيها ما يشبه الجرس، لكن الجرس لا يزال يرن، واضح أنه جرس الهاتف، بحثت ومشّطت المكان تمشيطاً.
أخيراً عثرت على الهاتف في الطابق الأوسط التقطت السماعة ووضعتها على أذني، لا صوت. والجرس لا يزال يرن، إذن فليس الهاتف هو الذي يرن.
أيمكن أن يكون في البيت هاتف آخر؟
ركضت في هذا الاتجاه، وركضت في ذاك الاتجاه، واكتشفت أخيراً أن جرس الباب هو الذي يرن، كان القادم بائع الصحف.
ـ لا داعي! من الآن فصاعداً لا داعي للصحف!..
أغلقت الباب، وعدت ثانية لأجلس خلف طاولتي. وفيما كنت أمسك القلم بيدي، رنّ جرس مرة أخرى، نزلت سلالم الطابقين، ولكن لا أحد بالباب هذه المرة.
أيكون الأولاد هم الذين يقرعون الجرس ويهربون؟ لا أحد بالباب. لكن الجرس لا يزال يرن. كان جرس باب الحديقة الخلفي هو الذي يرن هذه المرة. إنه بائع الحليب.
ـ لا داعي! من الآن فصاعداً للحليب! لا تحضر لنا حليباً!
ـ يوجد حساب أسبوع.
الرجل ترك لي قصره الفخم لمدة ستة أشهر دون أن يأخذ أجرة ولو عشر ليرات.. دفعت حساب الحليب.
صعدت إلى الطابق العلوي، وقبل أن يمس القلم الورقة، رنّ جرس ثانية، ركضت إلى الباب الأمامي أولاً، ثم إلى الباب الخلفي. لا يوجد أحد.
كم باباً لهذا القصر؟
ـ أدور وأبحث، لا يوجد باب آخر.. الجنون ليس باليد. لابد أنهم أولاد عديمو التهذيب! عندما أركض إلى الباب الأمامي، يقرعون جرس الباب الخلفي، وعندما يرن جرس الباب الأمامي، أفتح الباب الخلفي لأفاجئهم، وإذ بعديمي التربية قد هربوا. وفجأة خطر الهاتف ببالي.. أوه.. إنه جرس الهاتف الذي يرن.
ـ ألو، تفضلوا...
ـ نازان خانم من فضلكم.
ـ ليسوا هنا يا سيدتي.
لم تمرّ فترة على جلوسي إلى طاولتي. ترن ن ن .. الجرس مرة أخرى ركضت إلى الهاتف أولاً، ليس هو، هرعت إلى الباب، وإذا بساعي البريد، استلمت منه الرسالة. وفيما كنت أصعد السلالم، رنّ جرس مرة أخرى.
ركضت إلى البابين، لا أحد، نظرت إلى الهاتف، ليس جرس الهاتف، وفيما كنت أصعد وأنزل باحثاً، وإذ بصوت طائر:
ـ غوغوك.. غوغوك.. غوغوك!
إنها ساعة حائط، إذ كانت هناك ساعتا حائط على جداري الصالة المتقابلين إحداهما جرسها يرن، والثانية طائرها يغرّد. انتهت نوبة عزف الساعتين وإذا بجرس الهاتف يرن.
ـ نازان خانم من فضلكم.
ـ نازان خانم ليسوا هنا يا سيدتي، لقد انتقلوا إلى استانبول.
وفيما كنت واقفاً في الصالة حائراً مشدوهاً، وأنا أسبح في عرقي من كثرة ما جريت وراء الأجراس من فوق لتحت، ومن تحت لفوق.. جاءني صوت:
ـ دان... دان... دان!
أنا لا أفهم، كم جرساً يكون في البيت، وكم صوتاً، وكم ساعة تكون فيه! هذه المرة كانت ساعة حائط المدخل هي التي تدق.
تلفت وانتهيت من الجري هنا وهناك!..
تارة يرن جرس هذا الباب، وتارة جرس الباب الآخر... وفيما أنا أركض نحو الأبواب، يرن جرس الهاتف. أصابني ارتباك، بحيث صرت أركض وراء صوت جرس، لأجد أنها دقات ساعة.
في هذه الأثناء رن جرس آخر... كان اكتشاف مصدر صوت الجرس مستحيلاً هذه المرة. إذ كان جرس دراجة طفل صغير مر من أمام البيت بدراجته.
حل الليل، ولم أستطع كتابة كلمة واحدة. لكني أظن أني قطعت أربعين كيلو متراً جيئة وذهاباً داخل البيت، صعوداً ونزولاً جرياً وراء رنين الأجراس..
فقد جاء كل رجال وعمال الخدمات، من البقال حتى بائع زجاجات الماء. ورنّ الهاتف ثلاثين أو أربعين مرة. استلقيت على الفراش متعباً منهوكاً، وتمددت مثل ميت.
قلت لنفسي:
ـ اليوم الأول يكون هكذا، والآن علِم الجميع أن لا أحد في البيت، وغداً لن يرن أي جرس.. وسأكتب كتاباتي,.
لم تكد عيناي تغفوان حتى سمعت صوتاً لكنه ليس صوت جرس، شيء مثل مييك، مييك، مييك، لم أستطع تشبيهه بأي صوت أعرفه. أنا اعتدت رنين الأجراس ورضيت بها منذ زمن. رنين جرس، لابأس، لا تفتح الباب، ولا ترد على الهاتف، يتوقف الرنين بعد برهة، لكن هذا الصوت لا يتوقف أبداً، سحبت اللحاف فوق رأسي، ما صار، سددت أذني بأصابعي دون جدوى، بدأت البحث عن مصدر الصوت.. هذه الغرفة لك، وتلك الغرفة لي.. أخيراً أليس هو صوت الجرو الصغير في الحمام؟
سكت الجرو المسكين عندما رآني، وراح يلف ويدور عند أسفل رجلي. واضح جداً أنه جائع، وضعت ما وجدته في المطبخ أمامه، وعدت إلى الفراش.
توقف رنين الأجراس، لكن دقات الساعات لا تتوقف، والجرو لا يسكت، وبين الفينة والفينة كان الهاتف يرن.
انتصف الليل. حاولت تعطيل الساعات واسكاتها لم تسكت... والجرو يهمر كلما ابتعدت عنه. أحضرته إلى غرفة النوم فصار يهمر كلما دخلت الفراش.
أحببته، داعبته، رجوته، لا يسكت، أخيراً أخذته إلى جانبي في الفراش فسكت.
سكت الجرو، فبدأ كلب الحراسة في الحديقة ينبح:
ـ عو، عو، عو..
سأجن.. لا، لن أجن، لقد جننت.
ـ اسكت ولك كلب ابن كلب اسكت.. اسكووت!...
حين أركض إلى النافذة لإسكات الكلب الكبير، يهمر الصغير، أصبح الصباح وأنا منشغل بالكلاب والساعات، وعندما أشرقت الشمس، بدأت أصوات الدجاجات، وبدأ صياح الديكة في الحديقة، كنت على درجة من الإعياء بحيث لم أهتم بأصوات الدجاج.
ـ جييك، جييك، جيييك..
أمسكت قفص الكناري الذي فوق رأسي ورميته في الحمام، وأغلقت الباب عليه. لم أكد أغفو عشر دقائق أو أقل، وإذ بي أهبّ من نومي فزعاً على صوت غليظ ظررر. فكّروا كم كنت مرتبكاً! فقد صعدت إلى السقيفة.. وهناك ثبت إلى رشدي وبدأت أفكّر، أنا لن أستطيع أن أكتب سطراً واحداً في هذا القصر، أين الأولاد. أنا قربان لهم.. على الأقل عندما تقول اسكت، فإن الولد يخاف ويسكت. لكن هل تفهم الكلاب والساعات من اسكت؟ وهل تخاف الأجراس؟ طيب، ولكن هم ماذا يفعلون في هذا البيت؟ إن شخصين لا يكفيان للجري وراء أصوات الأجراس. يا له من بيت هادئ هذا الذي عثرنا عليه!
سأذهب إلى الرجل الذي أسدى إليّ معروفاً وترك لي قصره، وأقول له:
ـ لقد عدلت، عليك أن تستأجر رجلاً لطيورك وكلابك!
أغلقت باب البيت، ومشيت مغادراً، وإذ برجل يقول لي:
ـ أهلاً وسهلاً! هل أنتم الذين ستحرسون القصر هذا الشتاء؟
كنت متضايقاً، ولكي أصرف الرجل عني، أجبته:
ـ نعم!
ـ بكم؟
ـ بكم ماذا؟
ـ إحذر من أن تحرس بأجر زهيد، فقد استأجروا العام الماضي حارساً بخمسمئة ليرة، وكاد الرجل يجن، فهذا القصر اسمه قصر الأجراس.
دخلت كالريح على الرجل الذي أسدى إلي المعروف، وكان عنده في المكتب رجل آخر، وقلت له:
ـ لقد عدلت عن هذا العمل.
ـ لماذا؟
ـ قصر ضخم، لا إنس فيها ولا جن.. إنه هادئ جداً يا أخي سأنفجر.
ـ كنت أعرف ذلك. فأنت معتاد على الضوضاء والضجيج، ولا تستطيع العمل في مكان هادئ..أنا أعرف هؤلاء الكتّاب! كلهم يبررون بقولهم:
"لو تهيأ لنا مكان هادئ لكتبنا كذا، وكتبنا كذا.." وعندما يتاح لهم المكان الهادئ، يقولون لقد تضايقنا.. هؤلاء هكذا، ليس لديهم شيء يكتبونه، ولذلك...
أسرعت بالخروج مغادراً، كي لا أرتكب جريمة.
ذهبت إلى بيتي، وهناك قلت أووووه، قلت ذلك، لكن رنين الأجراس ما زال يرن في أذني.