من قراءاتي " الأصنام "
نحن نقول إننا في عصر العلم وإننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها وأوثانها ولم يعد هناك من يعيد اللات والعزى وهبل ولا من يسجد لبعل انتهى الشرك إلى غير رجعه ولكني أقول بل نحن عبده أوثان نسجد ونركع ونحرق البخور ونرتل التسابيح والابتهالات في كل لحظة الأصنام لا حصر لها .
نحن في الجاهلية بعينها ولو تكلمنا بلغة الالكترونات ولو مشينا على تراب القمر إنما اختلفت أسماء الأصنام واختلفت صورها ونوعياتها وتسترت تحت ثياب لا لغة ولكنها هي الأصنام بعينها .
ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم وهل هو إلا صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجي لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروج بها أي بضاعة صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر وإعلانات الخمور والصابون والبيرة والكاميرات والساعات والحراير والأقمشة حتى أدوية الزكام وشفرات الحلاقة ومعاجين الأسنان وهي عامل مشترك في كل أفيشات السينما والمسرح وهي على أغلفة المجلات وعلى كروت المعايدة وفي جميع الفاترينات بمناسبة وبدون مناسبة وهي على علب الشيكولاتة وعلب البونيون وزجاجات العطر ونجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات .
أما الصنم الثاني :
أو لعله المعبد أو الكاتدرائيه العظمى أو الكعبة أو جيل الاولمبا الذي يتجمع فيه جسد الالهه العصرية فهو فاترنية البضائع الاستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة والريكورد والتلفزيون والساعة الذهبية والسوار الماسي .
وكل شي يفنى ماعدا وجهه ذي الجلال والإكرام المضاء دائما بالنيون و الفلوريسنت في حي المال والتجارة من كل مدينة .
أما الصنم الثالث :
فهو الهيكل هيكل الفكرة المجردة والنظرية والمذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب لا يرى حقا إلا ما تقوله بنور نظريته ولا يرى صدقا إلا ما يأمر به مذهبه فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يحرق حيا ... وهو يعيش بفكر مقلوب ومنطق معكوس فالإنسان عنده يجب أن يوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان .
وهذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد وعابد قصاصات الورق والشعارات الطنانة الكاذبة وهو أحد مجانين هذا الزمان .
وصنم آخر شائع :
هو الدكتاتور والحاكم المطلق والطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة ومن حوله بلاد الهتافين والمصفقين وحملة المباخر والمجامر والمسبحين بالحمد والمنافقين والكذابين وقارعي الطبول ونافخي الأبواق وربما كان أشيع أصنام هذا العصر وأكثرها انتشارا هو صنم " الذات " عبادة النفس وإتباع الهوى .
المرأة التي تعبد جمالها والرجل الذي يعبد أناقته والممثل الذي يفتتن بشهرته والفنان العابد لفنه والبطل المشهور ببطولته والمتحدث اللبق الذكي العجب بنفسه وبذكائه ونجم السهرة المزهو بشخصيته وصاحب الملايين الفرحان بملايينه .
والمال في أكثر الأحوال وفي هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع وقد يختفي صنم الذات وراء صنم اكبر هو العصبة للعائلة أو القبلية أو الطائفية أو العرق أو العنصر أو الملة وكلها أصنام وكلها عبوديات وكلها شرك وعبد الله لا يكون عبدا لله إلا إذا تحرر منها جميعا واسلم قلبه ووجهه خالصا من جميع الشواغل والعلائق والتعبات والمنازعات القلب لله بلا منازع هذا هو الدين .
أما نحن فيه فهو جاهلية جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة وبقيت أوقاتها العصرية وإقامتها مكان اللات والعزى وهبل وبعل وأقامت لها الهياكل ووظفت لها السدنة والكهان وقدرت لها النذور والقرابين .
ولو إننا جلسنا إلى أنفسنا وصارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عبادة الأصنام يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأوثان الحقية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس .
المرجع: اقتبسته من " كتاب الروح والجسد "
تأليف الدكتور : مصطفى محمود