الحرب العالمية الأولى
عرفت البشرية في تاريخها القديم حربا بين قبيلة واخرى ، وبين حلف قبلي وآخر ، وبين دولة وقبيلة او بين دولة ومجموعة قبائل متحالفة ، او بين دولة واخرى ، او بين دول متحالفة في جهة واخرى متحالفة في جهة مقابلة .في مطالع القرن الحادي والعشرين تشهد البشرية نوعا جديدا وطريفا من الحروب هو حرب الدولة ضد فرد او افراد ، او حرب مجموعة من الدول ضد مجموعة من الافراد . هل ثمة مبالغة اذا اطلقنا على هذا الطراز من الحروب تسمية " الحرب العالمية الاولى ضد الافراد " ؟ انها بالفعل حرب عالمية من جهة ، وحرب ضد افراد من جهة اخرى . أليست " الحرب ضد الارهاب " حربا عالمية بامتياز ؟ان الولايات المتحدة تحديدا تخوض حربا شاملة ضد ما تسميه ارهابا – وقد يكون مجرد مقاومة وطنية ضد غاصب محتل – وهي حرب متعددة الجوانب والميادين والمستويات .انها تستخدم سلاح الاستخبارات لجمع المعلومات عن افراد متمردين لحسابهم او لحساب منظمات . وهي تستخدم سلاح الاعلام لتدمير سمعة افراد او مجموعة افراد متمردين على نظامها في الداخل او منظومات تقاتلها على مستوى العالم برمته . وهي تستخدم سلاح المال بمنعه من الوصول الى افراد ومجموعات من الافراد ، او بمنحه الى افراد او مجموعات من الافراد لمقاتلة افراد او مجموعات اخرى من افراد معادين . ثم هي تستخدم السلاح بشتى انواعــــه – السلاح التقليدي والسلاح المتطور وحتى سلاح التدمير الشامل اذا اقتضى الامر– ضد افراد او مجموعات من الافراد.
انها حرب ، الدولةُ فيها طرف والفرد طرف مقابل . انها ليست حربا مباشرة بين دولة واخرى ، كما كان يحدث في الماضي ، بل بين دولة وفرد او مجموعة افراد . صحيح ان دولةً او اكثر قد تكون وراء فرد او اكثر يواجه دولة او اكثر . في هذه الحال ، تكون الحرب بين الدول حربا غير مباشرة اداتها فرد او مجموعة افراد او جيوش .
لعل اخطر ظواهر القرن الحادي والعشرين صعود الفرد ، كطرف قائم بذاته ، في مواجهة الدولة .ثمة فرد حاول ، منذ بضعة اشهر ، خطف طائرة امريكية او تفجيرها بواسطة عبّوة اخفاها في حذائه . ثمة فرد آخر حاول ، منذ ايام ، خطف طائرة اسرائيلية بواسطة سكين بسيط لحمل قائدها ، بعد ان كاد يصل بها الى مطار اسطنبول ، للعودة الى اسرائيل بقصد استخدامها ، كما قيل ، كسلاح تفجيري على غرار ما حدث في نيويورك في 11 ايلول / سبتمبر 2001.
ثمة فرد او مجموعة افراد بامكانهم ان يصنعوا ، بمواهبهم وامكاناتهـم الذاتية ، اسلحة فتاكة كالاسلحة الكيماوية والبيولوجية ، وان يدمروا بها – اذا ارادوا وتمكنّوا – مجتمعات بأكملها .الفرد اصبح ، بذاته ، ظاهرة خطيرة ، خصوصا اذا كان موهوبا ومهجوسا بفكرة او قضية ، او ساخطا متمردا على أنظمة وروادع وقيود ، او فقيرا وجائعا لا يخسر ، في حال انفجاره ضد مستعبديه ، الاّ قيوده والسلاسل . وهو خَطِر وخطير بل شديد الخطورة اذا كان مسلحا بسلاح متطور فتاك .
***
تدرك الولايات المتحدة ، لأنها ابرز المستهدَفين والمعانين ، خطورة الفرد الساخط والمتمرد في عالمنا المعاصر وزماننا السريع التطور ، فتراها اول المندفعين الى مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة . وهي اذْ تفعل ، لا تتوانى عن مواجهتها على مستوى العالم برمته . فقد بدأت بنفسها بأن شرَعَت في اقامة وزارة خاصة للامن الداخلي بعد ان اطلقت يد وزير العدل في تفعيل القوانين النافذة والتشدد في تطبيقها حتى حدود تجاوز احكامها والافتئات على الحريات العامة ، خصوصا في مجال توقيف الاشخاص ذوي الاصول العربية والاسلامية واطالة امدْ اعتقالهم بدعوى استجوابهم لدرجة اثارت حفيظة المواطنين الامريكيين من غير العرب وغير المسلمين . لا يقف الامر عند هذا الحد ، فترى القوات الامريكية من مختلف الاسلحة وقد انتشرت في شتى اصقاع العالم . ها هي تقاتل في سهول افغانستان وجبالها ، وتدمر في جبال اليمن سيارة تضم ستة رجال ممن حكمت عليهم بانهم من اعضاء منظمة " القاعدة " بواسطة طائرة من دون طيار . ويقال انها اقامت ، بمعرفة السلطات اليمنية ، نقاط رسو لها في بعض المناطق الداخلية للمراقبة والتدخل السريع . وها هي تقيم في بعض مناطق جيبوتي قواعد ومعسكرات لتجميع قواتها وتدريبها والانطلاق منها في اعمال المراقبة والتدخل في النقاط الساخنة ، وبينها بعض مناطق الصومال في شطوره المختلفة . كل ذلك اضافة الى العديد من القواعد العسكرية القائمة في شتى مناطق جنوب شرق آسيا والشرق الاوسط وشمال افريقيا وحتى في آسيا الوسطى . وها هي تتهيأ للانقضاض على العراق من اجل اقامة كبرى قواعدها الخارجية فيه ، بل من اجل مباشرة كبرى تجاربها في مجال " بناء الامم " ، فيصبح العراق – وفق ما يوحي بعض الكتاب الامريكيين من دعاة اليمين المحافظ الجديد – مثالا لبقية البلدان العربية والاسلامية في ممارسة " اسلام متجدد معادٍ للاصولية ".انها في الواقع حملة اميركية واسعة على مستوى العالم تتجاوز بها واشنطن ظاهرة العولمة القائمة الى ظاهرة الامركة الشاملة لكل المناحي الجغرافية والعمرانية والاجتماعية في كوكبنا الارضي.غير ان ادارة هذه الحرب العالمية العاتية تبقى مهجوسة ، كما سبقت الاشارة ، بالفرد الساخط المتمرد من حيث هو مرتكز العداء لامريكا وسياستها . في هذا السياق يكثر الحديث عن لاجدوى عمليات التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل في العراق بعد صدور القرار 1441. فوزير الدفاع دونالد رامسفلد يؤكد ، دونما ادلة او قرائن ، ان صدام حسين دفن جميع ما يمتلك من اسلحة دمار شامل في مخابيء في اعماق الارض ، وقضى على الاشخاص الذين قاموا بهذا العمل ليموت سرهم معهم ، وان المفتشين لن يتمكنوا من العثور على ايٍ منها .
آندي اوبنهايمر ، الخبير المختص في الاسلحة الكيماوية والبيلوجية والنووية لدى مجموعة " جاينز " الاعلامية ، يذهب أبعد من رامسفلد في تخميناته فيزعم في صحيفة " انترناشيونال هيرالد تريبيون " ( 18/11/2002) ان السيناريو الكابوسي الذي اعدّه صدام حسين يتمثل في قيامه بتخبئة ما لديه من اسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيلوجية في مستودعات خارج العراق ، وربما في الولايات المتحدة ذاتها وفي اراضي حلفائها !
يجري تنفيذ سيناريو صدام الكابوسي ، حسب رواية اوبنهايمر ، على النحو الآتي : " يُنشر عملاء عراقيون مزودون بتجهيزات للنثر والضخّ باطلاق مواد قاتلة في امدادات المياه البلدية او بشكل هباء من المداخن . ولكي يُثبت ان التهديد جدي ، يرد العراق على إنذار الولايات المتحدة الموجّه له بكشف موقع واحد لها فقط من مواقع تخزين اسلحته المذكورة " ( على ارضها طبعا )!
يجب عدم الاستهانة بتخمينات اوبنهايمر التي اقتبسنا عيّنة منها اعلاه رغم ان الغاية المتوخاة من وراء نشرها هي تضخيم خطر صدام والعراق لتبرير ضربهـما ، تماما كما حدث عشية حرب الخليج الثانية اذْ جرى تصوير الجيش العراقي في اجهزة الاعلام الامريكية والصهيونية بانه رابع جيش في العالم من حيث العدد والعدة والقوة ! اجل ، يجب عدم الاستهانة بما قاله ابنهايمرلأنه يريد ان يدلل على مدى قدرة فرد او افراد على القيام باعمال خارقة في مجال الارهاب والحرب الجرثومية .
غير ان اخشى ما تخشاه امريكا ان يتنّبه زعماء بعض المنظمات المعادية لها فيقوموا باقتباس بعض الاساليب التي يشير اليها اوبنهايمر وسواه ويستخدموها ضد الولايات المتحدة وحلفائها !
***
الحقيقة ان خشية عقلاء العالم تتجاوز إمكانية قيام الارهاب الدولي – افرادا وجماعات – باقتباس الاساليب شبه الخيالية التي يحذر منها اوبنهايمر وسواه الى امكانية تقليد منظمات العنف السياسي نهجَ اميركا واستراتيجيتها في محاربة اعدائها . فالولايات المتحدة تخوض حربها ضد اعدائها المتعددين من ارهابيين موصوفين او مقاومين من اجل الحرية على مستوى العالم برمته ، فلماذا لا نتوقع ان يعولم هؤلاء كفاحهم ضدها باعتماد نهجها واستراتيجيتها من طريق توسيع دائرة الاشتباك معها ليصبح على مستوى العالم ؟ أليس في مقدور المنظمات المعادية لامريكا ، بمختلف نزعاتها ومشاربها واستهدافاتها ، نشر افراد مزودين مختلف انواع الاسلحة القاتلة لمحاربتها على مدار الساعة وللنيل ايضا من حلفائها في شتى انحاء العالم ؟
ألم يوحي اسامة بن لادن مهدداً في آخر شريط بصوته جرت اذاعته اخيرا باعتماد خطة من هذا القبيل في مضمار محاربة امريكا واسرائيل محليا وعالميا ؟واذا ركب بن لادن وامثاله رؤوسهم الحامية واعتمدوا ، شأن مجانين امريكا فــي " البانتغون " ومجلس امنها القومي ، خطة لمقاومة اعدائهم على مستوى العالم برمته ، ألا يؤدي ذلك الى تحويل الكون مسرحا كوابيسيـا للامعقول ؟! واذا نجح بن لادن واقرانه في نشر العنف ضد امريكا في شتى الاصقاع والامكنة والزوايا وعلى مدار الساعة ، ألا يؤدي ذلك بالضرورة الى استنزاف قدرات امريكا او الى تورطها في حروب واضطرابات متمادية ومتتابعة ترهقها نفسيا وماديا وعسكريا وتتسبب تاليا بانهيارها على نحو ما حذر منه بول كنيدي في كتابه الاشهر " صعود الامبراطوريات وسقوطها " ؟
هل تتعقل امريكا ام ان " العالم ليس عقلا " ، كما قال عبد الله القصيمي ، وانها سائرة الى مصيرها المحتوم بخفة رعاة الابقار من ابناء تكساس او مصارعي ثيرانها الهائجة ؟