تنمية الإبداع
لابد لمن أراد الإبداع أن ينطلق من لحظة جديدة في حياته يرى فيها ضرورة تبني انطلاقة جديدة نحو أهداف محددة , بل عليه أن يعد لمنهج جديد في حياته التطبيقية , ذلك لأن ما تعوده في السابق هو الذي أوصله إلى ما هو فيه الآن , فلا بد لكي يصل إلى ما يريد أن يعتمد منهجا مغايرا على مستو ى الإنجاز و الإيجابية ..
ومقاومة التغيير نحو الجديد ونحو المتطور من استغلال القدرات الشخصية يعتبر من أهم الخطوات نحو الإبداع ويعتمد التفوق الإبداعي على القدرة على الارتقاء بمقومات الشخصية نظرا لأنها تعتبر محددا أساسيا من محددات مستوى الإبداع , ويلزم أن تكون لدى الفرد القدرة الذاتية على التحكم في مستوى التركيز والاهتمام الذين هما منطلق التفكير الإبداعي ..
ولا يعتبر الفكر المبدع نوع من الإنجاز الغير مسبوق فحسب , بل هو نوع أيضا من تحقيق الذات والشعور بالمتعة اللانهائية , خصوصا إذا كان المبدع يستطيع أن يسخر إبداعه في مصلحة منهج نافع , وقيم سامية , ومنافع عامة , تعود بالخير و النماء على مجتمعه وأمته .
ونظرة المبدعين للأشياء تختلف عن نظرة غيرهم فهم يرون الأشياء من منظور المثالية التي يجب أن تكون , ومن ثم فهم ينظرون إلى جوانب الخلل والثغرات في الأشياء والنظريات ثم يسعون جاهدين نحو ابتكار ما يتمم الرؤية أو يقدم رؤية جديدة ..
وكثير من الناس ذوي القدرات الإبداعية لا يعرفون عن أنفسهم أنهم مبدعون , بل إنهم يرون أنفسهم في مؤخرة الصف وفي ذيل القائمة رغم أنهم - بخطوات يسيرة - يستطيعون القفز نحو الإبداع
وأحاول معك أيها القارئ الكريم أن نقف على محاور أساسية لمن أراد أن يلتحق بركب المبدعين :
أولا : المنهج الإبداعي
المبدعون الذين لا ينتمون إلى منهج في حياتهم يظلون دائما تائهين في دروب لا نهاية لها , فترى كثيرين من الساعين للإبداع في مجال مثل مجال الكلمة تتوه كتاباتهم بين أوهام العواطف الخيالية والعشق الموهوم والهوى المصطنع أو قصص الترف الفكري أو غيره , فترى بعض الشعراء المبدعين غير ذوي المناهج القيمية المحترمة
تراهم يتوهون في مزادات رخيصة , فتراهم يَغوون ويُغوون , لذا فقد أشار القرآن الكريم إشارات واضحة بقوله تعالى ” والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون .. الآيات ” غير أنه سبحانه وتعالى قد استثنى من هؤلاء المبدعين في الكلمة بعض الذين يستخدمون إبداعهم في مصلحة منهجهم الرباني الإيماني العظيم فقال سبحانه ” إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ” سورة الشعراء , وقد أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشجع حسان بن ثابت الشاعر الإسلامي الكبير رضي الله عنه في ردوده علي المنافقين ,
وكان يقول له “( أهجم وهاجم يدافع عنك روح القد) ..
ولا يقتصر ذلك على إبداع الكلمة , فكم من مبدع ضحى بعمره وإبداعه في سبيل أن تخرج مخترعاته وأفكاره وكتاباته لا لشيء إلا أن يشتهر ويذيع صيته أو أنه كان يرجو نوعا من الخلود المظنون لا يصل إليه عامة الناس في رأيه , ولكنهم في غالب الأحيان يقعون في حمأة الكبر ويسقطون في حفرة الزمن القصير .
وانظر إلى أهل الإبداع الذين اعتبروا لأنفسهم منهجا ربانيا قيميا , كم هم اشتروا لأنفسهم ذكرا يصحبه ثواب لا ينتهي , وكم هم ربطوا مسيرة الزمن الفاني بالخلود الحقيقي .
ثانيا: إبداع الممكن
إن الفكرة المبدعة هي الفكرة الممكنة , فإذا أردت أن تبدع في شئ ما فانطلق من فكرة أساسية وضع لها خريطة للأهداف المرحلية والوسائل المتاحة ثم انطلق بفكرتك إلى تصور ممكن أيضا وعشها واقعا في داخل نفسك .. تمهيدا لجعلها واقعا حقيقيا ملموسا .
هناك الكثير من الناس الذين تأسرهم أفكار إبداعية غير ممكنة فيشعرون بالعجز أمامها ويشعرون باستحالة تطبيقها , ويظلون في هذا الإحباط الذي تغذيه قلة الإمكانيات , وضعف الوسائل , وبعد الشقة وهؤلاء إنما هم يدفنون مع أمثالهم في مقبرة الموهوبين التي قد حوت الآلاف والآلاف من أمثالهم .
لذلك فعندما أنصحك بأن تظل في حيز الممكن من أفكارك لست أعني بذلك أن تقتل الأفكار المتجددة أو أن تستسلم للتقليدي دائما منها , وإنما العبقرية هي تجديد الممكن وتحديث النافع والابتكار من المادة الخام التي يستهين بها الآخرون
ثالثا : التركيز والثقة .. سلاحان فعالان
إن تركيزك على فكرتك الممكنة تجعلها واقعا من شـأنه أن يمد جسرا بين المقدور الآني والمرجو القريب , وترويضك المستمر لدماغك ومحتوياته نحو التركيز النافذ يخرج من باطنك قدرات غير مرئية تتبلور في صورة الإبداع , وهذه القدرات إنما تتجلى في أفضل صورها عندما تستعين بالله عليها , فهو سبحانه القادر على أن يفجر منك القدرات التي لا تظن إنها عندك
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله - وقد سأله تلميذ عن كثرة قوله لاحول ولا قوة إلا بالله - فقال : إن لها أثرا فعالا في قوة النفس والبدن
وكثيرا ما كان شيخ الإسلام رحمه الله يدعو ربه قائلا : يا معلم إبراهيم علمني , يا مفهم سليمان فهمني , فإن استمداد الممدد من الله وحده هو مفتاح السر في التركيز نحو الإبداع .
كما أن ثقتك في ربك أنه قادر أن يعينك ويقويك ويدفعك نحو تحقيق ما يراه الناس صعبا أو مستحيلا هذه الثقة ستمدك بقدرة مذهلة على تبسيط المعضلات وتيسير المعقدات واستصغار الكبيرات , ستجد نفسك مع ثقتك بربك فوق ما تعرف عنها .
ولهذه الثقة مفتاح سر آخر , ذلك هو الافتقار إلى الله سبحانه , فقد كان كل الكبار الذين تحققت على أيديهم العظائم يسجدون لربهم ذلا وإكبارا واعترافا أن لا قوة لهم إلا به , فهذا سليمان عليه السلام بعدما قدره الله كل تلك القدرات الخارقة إذا به يقول : ” رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ” , وهذا يوسف عليه السلام لما مكنه الله سبحانه وتعالى وآتاه من الملك يقول: ” رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ”
ثالثا : طريق الابتكار
إن طريق الابتكار يبدأ بنظرة متفحصة لأمر من أمور الحياة , أمر من أهم شروطه أنه لو تحقق كما ترجوه لأفاد وتعدى في إفادته إلى آخرين ممن هم في حالة عوذ أوفاقة على مستويات مختلفة ..ولست أعني بالعوز والفاقة فاقة المال وحده وإنما الحاجة بشتى صورها ..
طريق الإبداع يبدأ بقناعة تامة تنشئها في نفسك بأنه مهما كانت التحديات التي ستواجهها فإنه بالإيمان الذي يكمن في أعماقك أنت قادر على النهوض نحو النمط الذي تريد , ومن ثم تكون الخطوة الفعلية التي تلي تلك القناعة وهي خطوة التحقيق والتنفيذ لتضع للحالة التي تمر بك مقياسا خاصا بك من حيث درجة القرب إلى تحقيق هدفك ..
كما أن انتهاج أفضل إستراتيجية لتحقيق أفضل النتائج هي الخطوة الثالثة , وأساس نجاحها أن تنطلق بحرية نحو قاعات الفكر السابق لك, حتى لا تكون مكررا , وتستطيع في حالة الحصول على فكرة قريبة -بعد دراستك لتاريخ الفكرة السابقة - أن تدمج فكرتين أو ثلاثة في فكرة واحدة , وهو أسلوب من شأنه تحسين استراتيجية التفكير ..
إن الابتكار ببساطة هو الانتقال من فكرة إلى فكرة , وإنما يتميز المبدعون بسرعة هذا الانتقال , وتعتمد سرعة الانتقال من الأفكار إلى بعضها , على القدرة على التغلب على المشاكل والأزمات , وعلى القدرة على القيام من العثرات , والخروج من الإخفاقات .
ولا شك أن التفكير المترابط المنسق المنظم يستطيع أن يصل بين حالة الوعي وحالات التركيز أجمعها من ناحية , مع لحظة الواقع الإبداعي من ناحية أخرى , مهما تخلل ذلك لحظات تشتت أو غموض نتجت من أزمة أو مشكلة عارضة .
رابعا : بناء العقل
لا يتاح لامرئ جاهل أن يبدع فيما جهله , وكذلك لا يكفي للإبداع النظرات السطحية للأشياء بلا دراسة أو عمق , فإنه لابد من خطوات بناء للعقل وتنمية للقدرات وتدريب للإمكانيات ومتابعة للإنجاز السابق وفهم متقن لماهية الأشياء وعلاقاتها بالواقع والحياة ..
إذن فالخطوة اللاحقة هي التعليم والتدريب , ولكن تعليمك وتدريبك ليس كفعل الآخرين إنما هو فعل متميز بهدفه الناصع وفكرته الناضجة ودافعيته المبتكرة , ومنهجيتة المتفردة , فضع نفسك موضع المتعلم مهما بلغ شأنك , وتواضع للعلم ساعة تجني بها ثمارا متكاثرة و ولا تستعجل معرفة الأشياء بلا عمق فإن المبدعين هم أكثر الناس فهما لحقائق الأشياء .