نّ كلّ امرئٍ يعرف شعور الحبّ , و لكنّه من الصعب عليه أن يُعطي تعريفاً علميّاً عنه , و ذلك في المقام الأوّل لأنّ هذا الشعور خارق الغنى و التنوُّع من حيث مضمونه (فهو يُعرِب عن علاقةٍ بين النّاس يُحسِّون فيها بالحاجة إلى الإتّحاد و التقارُب , و يوحّدون فيها مصالحهم و تطلّعاتهم , و يستسلمون فيها بعضهم لبعضٍ طوعاً و اختياراً بدنيّاً و وجدانيّاً) , و من حيث الإتّجاه ( الحبّ الجنسيّ , حبّ الوالدين و البنين , مشاعر الصداقة و الرفقة , المشاعر الوطنيّة و الإنتمائيّة ) , و هو فرديٌّ جدّاً من حيث شكل التعبير ( و هذا ما يصحّ خصوصاً بالنسبة للحبّ بين الرجل و المرأة ) . و في عداد من يحبّون , يحبّ كلٌّ على طريقته . و من هذا اللاتناهِ و التنوّع الخصب يصعب إعطاء النصائح و التوصيات في الحبّ . فظاهرة الحبّ كعموم العلاقات بين المرأة و الرجل , لا يتوقّف على خصائصهما الفرديّة و حسب , بل أيضاً على الظروف الإجتماعيّة . صحيحٌ أنّ لشعور الحبّ أساساً طبيعيّاً (الفرق بين الجنسين و العلاقات المتبادلة بينهما) , و لكنّه اجتماعيٌّ من حيث الجوهر .
و بما أنّ الحبّ في تطوّره الطبيعيّ يفترض تأسيس عائلة , و يفترض الأمومة و الأبوّة , فإنّ المجتمع ليس عديم الإكتراث بهذا الميدان من حياة النّاس الشخصيّة . إنّ الصداقة , مثلاً , لا يمكن أن تكون موضوعاً للتشريع , أمّا العلاقات بين الجنسين , فإنّها لا تُضبَط أخلاقيّاً و حسب , بل تُضبَط كذلك أحياناً كثيرة بالقانون . و في الحبّ يشترك اثنان , و لكن يظهر ثالث , تظهر حياة جديدة , و بالتالي تظهر المصلحة الإجتماعيّة .
و هنا ينبع استنتاجٌ مهمّ مفاده أنّ الحبّ ليس ظاهرةً فرديّةً خاصّةً و حسب , و إنّما هي ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ كذلك . و حيال هذه الظاهرة لا يجوز التدخّل اللجوج و الوصاية الساذجة , كما لا يجوز حيالها عدم الإكتراث و الحياد , و الهمود و الخمول . و خير وسيلةٍ لضبط حياة النّاس الحميميّة على الصعيد الأخلاقيّ , هي تربية المُثُل العليا التي تراعي الضوابط الأخلاقيّة و تناشد الحالات الجماليّة , لزرع صورة الحبّ السامي في نفوسهم , لما فيه خيرٌ لهم ينعكس بالمقابل طرداً على النسيج الإجتماعيّ المكوّن لجسد المجتمع .
إنّ الحب كان قد ابتعد في سياق تطوّر المجتمع عن الجاذبيّة الجنسيّة الغريزيّة , و أصبحت الحياة الجنسيّة محكومةٌ بتجليّاتِ معطيات الثقافة , لا بما يتجلّى من الطبيعة الفطريّة فقط .
فالحاجات الجنسيّة تكتمل بصورة طبيعيّة في الحياة الجنسيّة بالحاجات إلى المعاشرة التي تشمل كلَ غنى الشخصيّة البشريّة . و هذا يعني أنّ عالم الإنسان الوجدانيّ و سيماءه الأخلاقيّة , يضطلعان في آخر المطاف بالدّور الحاسم في العلاقات بين الرجل و المرأة .و بما أنّ الحبّ يظهر كاتّحادٍ روحيٍّ , فلا يمكنه أن يتواجد بدون أوثق عرى الصداقة بين المرأة و الرجل , بدون وحدةٍ معيّنة في الأهداف و المصالح و المطامح و التطلّعات .
و من هنا يجدر بنا الإعتراف بضرورة الصداقة بوصفها مقدّمة أساسيّة بالغة الشأن من مقدّمات الحبّ الحقيقيّ البنّاء .
و ليس دائماً ما يختار المرء في الحبّ أفضل شخصٍ بين المحيطين به , و ليس دائماً ما تتطابق متطلّبا ت العقل مع مواصفات القلب . و بما أنّ الحبّ في ذاته سعيٌ إلى المُثُل العليا , فهو بالتالي يشكّل دافعاً أخلاقيّاً مدعوماً بحوافز غريزيّة كمثل دافع الوالديّة , يوجّه طاقات المرء حيال الضعف في شخص الآخر المحبوب , و لهذا فلا مناص تقريباً في الحبّ عن النضال من اجل رفع قدر الشخص المحبوب , و السعي إلى مساعدته على التخلّص من نواقصه . و هذا النضال يملأ العلاقات بين الشخصين بمضمونٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ و مهمّ , و يمدُّ شعورهما المتبادل بالحيويّة و يقوّيه .
إنّ الحبّ الحقيقيّ ينشّط الفرد . فحين يحبّ الإنسان , يريد حبّاً مقابل حبّ , و هذا ما يوقظ همّته الخلاّقة و أفضل السجايا البشريّة , و يدفعه إلى النموّ الكيانيّ المتواصل , و إلى الترقّي الوجدانيّ , و كشف سخائه الروحيّ كلّيّاً .
و يصبح الإنسان أكثر تطلّباً من نفسه , محقّقاً كلّ طيّبٍ و صالحٍ و جيّدٍ كامنٍ في طبعه . و لهذا كان الحبّ شعوراً أخلاقيّاً خلاّقاً بأعلى الدرجات , فهو يستنهض الإنسان إلى ذرىً أخلاقيّةٍ جديدة , و يُقوِّي و يُعزِّز في نفسه شعور المسؤوليّة عن أعماله و تصرّفاته .
و واقع أنّ شعور الحبّ الرّاسخ , الثابت , يستحيل بدون وحدة النّاس الرّوحيّة , بدون أوثق عرى الصداقة بينهم , لا يعني البتّة أنّ الصداقة بين الرجل و المرأة تتحوّل حتماً إلى حبّ , و من ثمَّ إلى ارتباط , و إنّ الجاذبيّة البدنيّة لإنسانٍ من جنسٍ آخر تنبع من الهوى الروحيّ . فإنّ القرابة الوجدانيّة الروحيّة لا تفعل غير أن تعزّز الجاذبيّة الجسميّة الطبيعيّة و ترفع قدرها , علماً بأنّها تتجلّى في هذه الحالة كمتعة جماليّة بالجمال البشريّ , بجمالٍ لا ينحصر في مجرّد مجمل الصفات الجسديّة , بل يؤخذ في وحدة هذه الصفات مع العالم الوجدانيّ الداخليّ . و هذا يعني بتعبيرٍ آخر أنّه بقدر ما يكون الإنسان أوفر ثقافةً , و بقدر ما يكون أرقى و اكمل على الصعيد الفكري و الإنفعاليّ , بقدر ما يكون حبّه أغنى و أجمل , و أسمى أخلاقيّاً , و يعود بمزيدٍ من الفرح و المتعة لكلا الجانبين الجسديّ و الروحيّ الوجدانيّ .
أمّا الذين يكتفون بالجانب الفيزيولوجيّ من الحبّ , فإنّهم يُحرَمون هذا الشعور السامي و يفقرونه و يفرغونه إلى أقصى حدّ . فإنّ الحبّ من هذا الطراز مذلٌّ لمن يقصده , و مملٌّ في نهاية الأمر , و هو لا يُغني الإنسان وجدانيّاً بل يُفرغه , حيث يقوم باختزال الشخص الآخر إلى مجرّد جسدٍ مناطٍ بتحقيق المتعة الجسديّة , و هو بذلك يقوم باختزال طاقاته الإنسانيّة أيضاً إلى جانبٍ واحدٍ ألا و هو الجانب الغريزيّ .
و بالتالي تنشأ من هذه النظرة الإعتباطيّة علاقاتٍ طائشة , عابرة بين المرأة و الرجل , تستتبع أخطاء لا عقلانيّةً سلبيّة على الطرفين .
معلومٌ أنّ الحبّ يبدأ في أغلبيّة الأحوال من الميل , و الشعور العاطفيّ , و لكنّ هذا لا يعني البتّة أنّ كلّ ٍ ميلٍ قد يتعاظم و يصبح حبّاً حقيقيّاً . و لهذا يفترض الموقف الأخلاقيّ حقّاً من الحبّ , لا الحماسة و الرومانطيقيّة في المشاعر و حسب , بل أيضاً وعي المسؤوليّة , و السعي , لا إلى الإكتفاء بالتوافه في الحياة الشخصيّة , بل أيضاً إلى الإحساس بشعورٍ حقيقيّ , إلى التحقّق جدّيّاً من الشعور قبل تأسيس العائلة .
إنّ الموقف البدائيّ الفيزيولوجيّ من الحبّ ليس ظاهرةً جديدة , رغم أنّه يميل في الحياة المعاصرة إلى ارتداء أثوابٍ جديدة . و هذا الموقف يلازم في المقام الأوّل أولئك الذين يعيشون نمط حياةٍ خاملٍ و يتخمون من التسليات و الملذّات و يبحثون عن "إحساساتٍ حادّة" , لا تفضي إلاّ إلى حلقاتٍ متتالية من اللهث وراء تحصيل المتع الآنيّة التي لا تجلب سعادة حقيقيّة مستمرّة .