فأما الزبد فيذهب جفاء

أرأيت والسماء صافية والشمس تملأ الجو بدفئها وضوئها، إذا الغيوم تقبل من كل صوب، وتتجمع في عرض السماء، فإذا تلاقت الغيوم وتلاقحت انهمر المطر غزيراً، فاتخذ مجراه على سطح الأرض.

وخلال مسيرة الماء باتجاه النهر، يحمل في طريقه ما خف وزنه من بقايا الأشجار التي تتكسر بعد يبسها واستغناء الشجرة عنها، فتعلو هذه البقايا الجوفاء عديمة الفائدة سطح الماء، لتبان أكبر من حجمها، وأرفع من منزلتها الحقيقية، وخلال تقلبها على سطح الماء فإنها تثيره فيزبد وينتفخ، فيغري العين منظره. أما الماء فيجري هادئاً إلى مصبه النهائي، يكاد جريانه لا يُحس لغلبة إزباد ما على سطحه من الغثاء.

بينما يسري الماء إلى مستقره لينتفع الناس منه، يلقي عن سطحه كل ما رغا عليه من زبد وأغصان متيبسة وبقايا ميتة، فإنها تقل كلما واجه الماء عقبة في مجراه، حتى إذا وصل النهر وصله وقد نبذ ما لا يُنتفع منه عن سطحه.

فإذا انقشع الغيم، وبدأت الشمس تمد أذرعها من بينه، فلامست بدفئها الجو وأوضحت بضوئها الرؤيا، لن ترى العين إلا سطح الماء الرقراق وهو ينساب بين ضفتي النهر.

كذلك عندما تدهم الأمم الفتن فتدلهم الخطوب ترى الفارغين المغمورين وهم يعلون على الناس ويتسنمون قيادتهم، فينشرون باطلهم ويضخمون حجمه أمام الأعين، فيظهر بمظهر يكاد يخلع القلوب الخالية من الثقة بالله، بينما العقلاء فإنهم يلبثون يتفكرون ويسيرون بهدوء حتى تنجلي الفتنة عن وضوح رؤى وتثبيت وجود.

)ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه) سيد قطب/ في ظلال القرآن

منظر نراه كل موسم، ولكن الكلمات هنا تنزل على قلوب أهل الحق- كما ينزل المطر- فينبت فيها الأمل أن نصر الله قادم لا محالة وأن الباطل منهزم لا محالة، وأن الحق ماكث في الأرض بما ينفع الناس، وأما الباطل فإلى زوال.

والله يلفت أنظار أهل الحق لأمرين الأول أن الباطل ضعفه في أصله لأن سنده طواغيت الأرض والحق قوي في أصله لأن سنده هو الله تعالى، والثاني أن حركة الحق بأهله تسهم - بقدر الله- في زوال الباطل؛ فالماء لولا حركته ما ألقى عن سطحه ما ارتفع من الزبد، كذلك حركة أهل الحق هي السبب لذهاب الباطل.

وهذا لأن قدر الله غالب(( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ))(الرعد: من الآية17)

اللهم اجعلنا من اهل الحق يا رب