عن دفتر الوطن..
الناس في هذه الدنيا بين مشغول بنفسه ومشغول بغيره عن نفسه، أو مشغول بالدنيا عن كل شيء، فهو يلهث خلف ما يظنه ماء في متاهات السراب، ويمد يده ليمسك بالخيوط التي تتراءى أمام ناظريه، فإذا لا شيء بين أصابعه سوى الريح، والناس ما بين شغلهم وفراغهم مملوءون باللهاث وعشق البحث عن الفرح والبهجة، يظنون السعادة لحظة والهمّ لحظات، فيتساءلون - كأنهم لا يعلمون- ماذا حلّ بالدنيا، ولماذا تغير الناس؟
دفاتر الذاكرة مليئة بالتذكارات والمواقف والمشاهد، ودفتر الوطن موزع بين الجميع، والكل يكتب في صفحاته من يحبه، ومن يتكسب من وراء حبه، ومن يتظاهر بهذا الحب اتقاء، ومن لا يعرف من الوطن سوى راتبه الشهري وما يشبع شهواته ويزيد نرجسيته، ومع ذلك فهذا لا يعني أن يتوقف المخلصون عن محبة الوطن أو الاهتمام بأصغر شؤونه وأفراحه وهمومه.
في دفتر الوطن وجه الأب، وحنان الأم، ولمّة العائلة وأمان الأصحاب، وأولى الخطوات نحو العمر والمدرسة والمعرفة وأشياء أخرى كثيرة جداً، وعندما نفتح هذا الدفتر صباحاً نتذكر صغار الأمس، ورائحة البحر، ونوارس الشاطئ وقواقع البحر الجميل الذي حرمنا منه اليوم وإلى الأبد، وتعود إلى سماء الذاكرة طائرات الورق بذيولها الطويلة حين تعلو وتختفي بعيداً في الأفق فتخفق القلوب الصغيرة متمنية أن تذهب يوما إلى ذلك البعيد!
في دفتر الوطن، صوت جدي الذي أنهك صدره تدخين الغليون، وصوت عصاه التي يتوكأ بها على الزمن وعلى عمره الذي ذهب خطوطاً لا تنتهي على رمال الوطن، ومع ذلك فقد ذهبت الريح بخطوط العمر وذهب الجد وذهبت عصاه وغليونه، ولم يبق منه سوى صوت البحر والشطآن وأسماء مراكب الغوص، وأجيال جاءت لا ندري أحفظت خطوط العمر أم ضيعتها وضيعت العمر؟!
الوطن يعيش ذكرى ألقه في قلوب أبنائه، فهل مازلنا جميعاً نعرف ذلك الإحساس، الإحساس بأننا جزء من الوطن، أم أننا فقدنا هذا الإحساس كما فقدنا أشياء أخرى كثيرة؟ وماذا عن أبنائنا، هل مازلنا نحكي لهم حكاية الوطن، وحكايات عن الوطن، وحكايات من الوطن؟ أمازال الوطن حكاية الغوص الشاقة ورجال البحر الذين صاروا في الذاكرة كالوشم القديم الغائر؟ أمازال الوطن تلك الأحياء الصغيرة ببيوتها الضيقة وسكيكها الرملية؟
تحكي لي أمي أن سكيك زمان كانت نظيفة دائماً مع أنه لم يكن هناك عمال بلدية ينظفونها كل صباح، كانت كل امرأة تنظف أمام بيتها حتى تبدو ممرات الفريج (الحي) كلها نظيفة، فأعرف على وجه اليقين أنهم كانوا على درجة عالية من ثقافة حماية البيئة أكثر منّا نحن اليوم أصحاب الشهادات وخريجي أرقى الجامعات!! وأتساءل: لماذا؟ ما الذي تغيّر؟ وأجيب نفسي: لا شيء، لكن الله يقول: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فماذا تغيّر داخل نفوسنا؟
كم هم رائعون هؤلاء الذين مازالوا يعزفون أغنية الوطن، يرتشفون ملحها وطيبها ويغرسونها نبتة أصلها متجذر في البر والبحر والجبل وفرعها يطاول السماء، كم أنت رائع يا وطني، وكم أنت رائع يا من مازلت تغني لهذا الوطن أغنية البحر والبر والجبل بكل تفاصيلها وتهويماتها وتجلياتها، وإذ أشم رائحة يدي، فإنني أفاجأ برائحة البحر، ذلك البحر الذي سكنني زمناً قضيت على ضفافه طفولتي وأيام عمري الشفيفة، وإذ أنظر إلى يدي أجد البحر ساكناً في التفاصيل وخطوط اليد كوشم غجري باذخ الخيلاء.