أسباب موت الصحف!
"قدّرتُ كُتّابي فقدّرني قُرائّي" ... هذا شعار صحيفة لم تولد في وطننا العربي بعد، وكيف لمثلها أن يرى النور، والقاعدة الاقتصادية البائسة التي تقول: "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة" قد غزت سوق الكتابة من بابه الوسيع، والقاعدة الحياتية التي تقر أن "المستنقعات تهجرها الطيور الجميلة" باتت هي السمة الرئيسية لمعيشتنا التي تتهاوى بلا هوادة، وهي المسرب الضيق الذي قد ينتهي بمقابر متجاورة ترقد فيها صحف كانت تملأ الدنيا، وتتيه على الزمن، وتختال على الناس.
الصحافة ليست استثناء من حالة الإنتاج المعرفي في بلادنا، وعلى رغم أن أغلب الصحفيين ناقلو معرفة وليسوا منتجين لها، فإن أحداً لا ينقل بأمانة، ولا أحد يقرأ بإمعان. وإذا كان الرقيب السياسي قد توارى قليلًا في بعض الصحف قبل أن يتأهب للعودة بضراوة في الأيام الأخيرة، فإن الرقيب الذي يدفعه الهوى أو تحركه الغريزة أو المصالح والمجاملات استيقظ بملء جفونه، لا فرق في ذلك بين العام والخاص، والتابع والمستقل، أو من يدعي أنه منبت الصلة عن الدوائر الجهنمية التي تحرك كل شيء في بلدنا المكلوم.
جاء اليوم الذي نسمع فيه أنه ليس من الضروري أن تقرأ لكي تكتب، وأنك يجب أن تسكب على الورق كل ما يأتي على بالك مهما كان سخيفاً أو سطحيّاً أو تافهاً، كي تعوم ويكون حضورك خفيفاً على من يطالعك، لأنك ببساطة تشعره بأن الفرق بينكما معدوم، وأن ما يميزك عنه أن حظك جعلك في وظيفة "كاتب" وحظه جعله في مهنة "بقال" أو "بواب" لكنه يقرأ لك، ثم يلعن الأيام التي جعلت المواقع تتبدل، ويقسم أنه لو جلس إلى مكتبك مكانك لسطر أفضل مما تسطر، ولديه كل الحق "فالمصطبة تكفي لجلوس الجميع".
ولتضحك حتى تتخاصم شفتاك إلى الأبد وأنت تسمع مذيعي التلفزيون يوزعون لقب "الكاتب الكبير" على من لا يحسنون كتابة جملة مفيدة، ولا يجيدون نطق عبارة سليمة، وفي رؤوسهم تعوي الرياح ويقيم الخراب. ولا تتعجب فالمذيعون لا يكذبون فهذا "كبير في الحجم" وهذا يجلس على كرسي أكبر من الأريكة التي كان يضطجع عليها السلطان برقوق، وهذا يقعد في مكتب أوسع من ميدان التحرير. وعليك أن تترحم على اللقب الذي هبط من طه حسين إلى (س) ومن نجيب محفوظ إلى (ص) ومن محمد حسنين هيكل إلى (ح) وتتوالى الأسماء ونقيضها. وعليك أن تجمع هذه الأضداد في صفين متقابلين، وتتفرس فيها مليّاً، ثم تقهقه حتى يسمعك من في القبور.
أين هذه الصحيفة التي تمتثل لحديث نبوي شريف يقول: "أنزلوا الناس منازلهم" أو تستجيب لقاعدة ذهبية صكها الفقهاء تقول: "يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال" أو تسمع للقائد العسكري الذي صرخ في الجنود قبل أن يظفر بالنصر المبين: "تمايزوا أيها الناس لنعرف من أين نؤتى"، أو تترك كل هذا وراء ظهرها وتفكر في مصلحتها الآنيّة والآتية وتنفض عن كاهلها حسابات صغيرة وضيقة تدمرها تباعاً، حين تطلق جيوش السوس لتنخر في عظامها بمرور الأيام، وأصحابها في غفلة.
أين هذه الصحيفة التي تدرك تماماً أن من يطالعها يقرأ ما بين السطور، فينجلي له كل شيء، وتهتك أمامه كل الستائر السميكة المشبعة بشعارات جوفاء وادعاءات باطلة، وتنكسر القشرة الخارجية البراقة ليظهر المتعطن والمتعفن والمعطوب، فيعرف علاقة هذا بذاك، ويفهم همزات الوصل بين هذه وتلك، وحين يطمئن إلى كل شيء يدير ظهره للسطور وكاتبيها، ويهيل التراب على الادعاءات وقائليها، ويبدأ رحلة التحايل التي انتهت بسقوط جرائد من عليائها لتستقر في القاع البارد المستكين، واختتمت بانطفاء أسماء كُتاب لأن القراء وجدوهم يعيدون ما كتبوه من دون تجديد ولا تجويد.
إن فاقد الشيء لا يعطيه، والصحيفة إن لم تحترم كُتابها ومحرريها فلن يحترمها قراؤها، ويبدأ الاحترام هذا باختيار من يطلون على الناس كل يوم بصورهم الضاحكة أو الواجمة والأهم بسطورهم التي تسوي المطابع بين أشكالها وتفرق العقول بين مضمونها، ثم يأتي مبدأ "الاستحقاق والجدارة" فالبقاء للأصلح والأنفع والأجدى، تتبعه قاعدة أن من "يتكاسل يتراجع" فلا معنى لاستمرار من لا يضيفون جديداً ومفيداً في كل قطعة يكتبونها، فصفحات الجرائد ليست مثل مكاتب الحكومة في هذا الزمن لابد أن تجد من يشغلها بغض النظر عما إذا كان يعمل أم يكسل، وليست مثل البرلمانات المزورة التي تصفق دائماً، وليست كذلك مثل الفاسدة من أقسام الشرطة، تلصق الاتهامات بالأبرياء كي تقدم مبرراً لترقية الضباط المتراخين الذين لا ينهضون وينتفضون إلا أمام رؤسائهم حين يضربون الأرض بأرجلهم ويرفعون أياديهم اليمنى بمحاذاة رؤوسهم ويصرخون "كله تمام يا أفندم".
لقد أدركت صحفنا العريقة في أيامها الزاهرة قيمة أن تضم مبانيها مكاتب لكبار الكُتاب، حتى ولو لم يكتبوا سطراً واحداً لها أو كتبوا من دون انتظام، فيكفي أن يقال في كل مصر والعالم العربي من المحيط إلى الخليج: إذا أردت أن تقابل أو تراسل المفكر أو الأديب أو الكاتب الفلاني فعليك أن تقصد الصحيفة الفلانية. راح كل هذا وجاء زمن تنفتح فيه صفحات الرأي أمام كل شيء إلا الكتابة، وتذوب فيه الحدود الفاصلة بين الكتابة ومختلف فنون العلاقات العامة، أو ممارسة السياسة في أدنى صورها. ومع هذا التراجع المهين فقد الكتاب دورهم، وخسروا موقعهم المتميز في نفوس الناس، وتهاوت كل المسافات المملوءة بالهيبة والقيمة والاحترام والاستنارة بين الكاتب والقارئ، وحلت محلها مسافات مملوءة بغرور الصغار وفسادهم.
أيها المحرر الصالح النزيه النابه. أيها الكاتب العارف الموهوب، لا تيأس، ولا تنقطع عن العطاء، فالزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فارفع رأسك وثبت قدميك في الأرض عميقاً، وتذكر أن الريح كنست في طريقها قشاً كثيراً كان هائجاً ويملأ العين في يوم من الأيام.