أَرْوعُ ما في المعصية قبلَ ارتكابها هو تلك الآمالُ التي ترتسِم في المخيلة، فتُنشِئ سعادةً ونشوةً تجعلك تطير في عالَم مِن الأحلام، وكأنَّ كل ما تتمنَّاه سيتحقَّق، وتزداد روعةُ السعادة كلَّما اقتربتْ مِن تحقيق معصيتك، تتَّضح الخُطواتُ أمامك وتَهون كلُّ العقبات أمامَ ناظريك، تزداد شجاعتُك مع ازدياد دقَّاتِ قلبِك! إنَّه الانتعاش يغمرك، وما أروعَ الانتعاشَ المقترن بالخوف: خوف مِن ضياع الفُرصة أو ظهور طارِئ قد يُحيل سعادتَك خيبة، إنَّه خوف يزيدك إصرارًا وتدقيقًا في كلِّ خُطوة تخطوها مِن أجل هدفك، يجب ألاَ يكون للصُّدفة طريق في خريطتك الموصلة للسعادة، كل شيءٍ محدَّد ومدقَّق، والغريب أنَّ كل الحواسِّ تكون مجندَّة لتحقيقِ المراد، بل حتى الوسوسات - والتي غالبًا ما تُلهيك عمَّا أنت فيه - تكون هذه المرَّة عونًا لك، بل خَيْر داعِم لك؛ ومِن المحقَّق أنَّ الأمر إذا اجتمعتْ له الهمَّة، وتجنَّدتْ له الحواسُّ، ووضحت له الخُطة، وأعانتْ عليه الخَطرة، وشابَ الإحساسَ - مِن أجله - نوعٌ مِن الحذر والتخوُّف والتبصُّر فهو بالتأكيد سيتحقَّق.
ثم إنَّ أرْوع ما في المعصية أثناءَ ارتكابها هو بلوغُك أوْجِ السعادة وأعْلى درجاتِ الانتشاء وقِمَّة قِمم الاطمئنان أنَّك الآن في هذه اللحظة تملِك كلَّ شيء وحقَّقتْ كلَّ شيء، وصغُر أمامَ هدفك كلُّ شيء، بل حتى وإنْ جاءتك بعضُ الهواجس تَدْعوك للتراجُع، فالغريب أنَّ تجنُّدًا غريبًا داخلَ نفسك يدفعها ويردُّها ويُشجِّعك على المُضي! ألستَ قد ملكتَ كلَّ شيء؟!
وتعظُم السعادة عندَما تتأكَّد أنَّك ملكتَ كلَّ شيء بتدبيرك وتخطيطك وحُسن تَقديرك، فهي نتيجةٌ حصَّلَتْها الحواسُّ إذِ انتبهت، والأفكار إذِ اجتمعت، والحسابات إذْ تآلفَت، والرَّغبات إذْ وضحت، والخواطِر إذْ دعمت، فِعْلُك أوصلك لما تُريد فأنتَ قويٌّ، وما هواجِس الضَّعْف والنقص التي كانتْ تعتريك بيْن الفينة والأُخرى في مجالاتِ حياتك إلاَّ مجرَّد عوائق وهميَّة صنعتَها أنت بنفْسِك، ألم تَصِلِ الآن إلى مبتغاك؟! ألم تتملكْ ما تريد؟! ألم تحقِّق تمامَ السعادة؟! نعمْ، ذلك وأكثر مِن ذلك! فأنتَ في هذه المرحلة أقوى مِن كلِّ الظروف وأعْتَى من كلِّ العوائق.
حتى وإنْ لاحظتَ غِياب عقلك عنِ التحضير والتنفيذ والتنعُّم بالسَّعادة، فإنَّ ذلك ليس غيابَ هروبٍ أو تهميش، وإنَّما غياب انسِجام، فتمام العقل ينسجِم مع تمام الرَّغْبة وتمام الحِرْص وتمام العَزمة وتمام الوسوسة، فيذوب الجميعُ في تمامِ السَّعادة، فلا تدَع هاجسًا ينغِّص عليك سعادتَك عندما يُكلِّمك أنَّ غياب عقلِك مظنَّة خطأ المسير والمصير، فما غاب عقلُك وإنَّما انتشَى!
ثم إنَّ أروع ما في المعصية هو ذلك الهُدوء الذي يتبع العاصِفة، هدوء لا يُكلِّمك فيه إلاَّ الصمت، هدوء تَغيب معه تلك الهواجِس والأفكار، وتَخْتفي عندَه تلك الرَّغبات التي كانتْ تهزُّك قبلَ لحظات هزًّا، وتنعدم أثناءَه كلُّ تلك النِّداءات التي كانتْ تملؤك بالاندفاع والتحرُّك، وتذهب تلك الصَّيْحات التي كانتْ تُحاصرك لتدفعَك لطريقٍ واحدٍ تحقِّق به سعادتَك.
هدوء يساوي فيه عندك كلَّ شيء، تحسُّ - وعيناك شاخِصة إلى السماء - أنَّك لا تُريد إلاَّ هذا الهدوء، حتى رغبتك التي أوصلتْك لهذا الهدوء لا تُريدها الآن، فهي لا تساوي شيئًا، أنت الآن عندَ نفسك لا تُساوي شيئًا، يَغيب كلُّ العالَم المحسوس والملموس أمامَك، شيءٌ واحِد فقط يُثير انتباهك: إنَّ هذا الهدوءَ الذي تبِع العاصفة ستتبعه عاصِفة.
ثم إنَّ أروع ما في المعصية بعدَ حدوثها هو تلك الهزَّة العنيفة المفاجِئة التي تُحرِّك كلَّ كيانك دون أن تعرِف لها مصدرًا، هزَّة تبْعَث في أركانك اضطرابًا، وحركةً وأشجانًا، تتبع بصيحاتٍ ونِداءات وحتى استغاثات، تحسُّ بعدها بنشاطٍ يذهب عنك النَّوم، ولكنَّه للأسف يُقعِدك في مكانك، ويعود معها عقلُك الذي كان سادرًا ليتولَّى زِمامَ المبادرة والكلام بعدَما غاب وذاب.
فجأةً تتوحَّد كلُّ تلك الصيحات لتكونَ صيحةً واحدة، وتتوحَّد تلك النِّداءات لتكونَ نداءً واحدًا، ففي صيحةٍ واحِدة، ونداءٍ واحد، ونبْرة واحدة، يأتيك الخطابُ واضحًا نقيًّا وهو يقول لك: وَيْحَك! ماذا فعلت؟ لا بدَّ أنَّه أوضح خِطاب سمعتَه في حياتك؛ لأنَّه ينطق منك وإليك، يلخِّص حالك ويُنذرك بمآلك، ميزتُه أنَّه يتكرَّر مرةً واحدةً، لكنَّه يجعلك تعيش صداه زمنًا، وتغيب مع كلِّ نبرة مِن نبرات الصَّدَى كلُّ العوالِم من حولك، حتى تلك السعادة تغيب، وذلك الهدوء يتحوَّل إلى رُعْب يعتريك، فتضطرب وتخاف وتَتيه، فلا تسمع إلا صدَى الخطاب، بل كابوس الخطاب: ويْحَك! ماذا فعلت؟
فرَوْعَة المعصية بعدَ حدوثها أنَّها تُريك شناعتَها قبلَ حُدوثها، وتُريك بشاعتَها أثناءَ حدوثها، وتُبيِّن لك حقيقتَك بعدَ حدوثها، حقيقة أنَّك كنتَ مخدوعًا واهمًا، وأنَّ غياب عقلك لم يكُن انسجامًا وإنَّما كان إبعادًا، وأنَّ السعادة التي أحسستَها ما هي إلاَّ راحة عابِرة كالراحةِ التي يعيشها مُدمِن المخدِّرات عندَ أخْذه الجرعةَ الكاذبة.
يَزداد اضطرابُك وأنت تتأكَّد مِن هذه الحقائق، ويَزداد تيهانُك وأنت تتلمَّس الخلاصَ مِن هذه العاصِفة، مِن هذا العذاب، تَعرِف مع هذا كَمْ كنتَ صغيرًا، حقيرًا، مغرورًا، فاشلاً...
يتحفَّز عقلُك عندَ هذه النقطة بالذات ليعلنَ ثورتَه على القيود السابِقة، وانقلابَه على حُكم الحواس واللذَّة، وسيطرتَه على مقاليدِ التسيير، فيدلُّك على جَناحِ السرعة على أقربِ منفذ للخُروج من حالة التِّيه، فيسير بِك إلى نِداءٍ خافِتٍ كنت قد أهملتَه في البداية، نداء قد يَظهر لك بعيدًا ولكنَّك تجده الأقرب؛ لأنَّه موجود بداخلك، ملازِم لك، مغروس في ضَميرِك وشُعورِك وكل كيانك، منفذ يكون بسيطًا في البداية، فإذا قصدتَه ازداد اتساعًا حتى يغمرك كلَّك، تتَّجه إليه فإذا النداء: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، فإذا برُوَاقٍ طويلٍ يتفتَّح أمامك في كلِّ جنباته مكتوب عليه: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، هذا الرُّواق وعلى عكس الأوَّل الذي سلكتَه طلبًا للذَّة والسعادة، يبَتدِئ بالظلمة والضِّيق، ثم يزداد النور والسَّعة حتى تجِد نفسَك في رَوضة من الذِّكر والفِكر والحب، تفوق بروعتها كلَّ لذات الدنيا.
إذا كان أَرْوَعُ ما في المعصية هي سعادة تافهة، وهدوءًا خادعًا، وانتشاءً مكذوبًا، ثم عِلْمك كم أنت حقير وصغير وتافه بلا قِيمة، فإنَّ أروع ما تحسُّه بعدَ ترْك المعصية هي أنَّك في رِحاب مولى الأرْض والسموات، فتغمرك بذلك كلُّ الرحمات، وتقودُك شهواتُك ولذَّاتك إلى معرفةِ ذاتِك، وأنَّك لا تُساوي شيئًا بعيدًا عن ربِّك - سبحانه وتعالى.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وسلَّم
والله أكبر ولله الحمد