الكلمة الحسنة:
الكلمة الطيِّبة تَجلب الودّ، وتُزيل الجفاء، وتَغْرس الصفاء والوئام، فكم سكَّنت مِن ثورة الغاضب، وقرَّبت من ودِّ الحانق، وهدَّأتْ مِن فِتْنة! وللاعتذار في الأدب العربي شأنٌ كبير.
وقصائد النابغة الذُّبْياني، وأبي سفيان بن الحارث، وكعْب بن زهير، والمتنبي وغيرهم تُردِّد أصداءها الأجيال، ويتناشدها الرُّواة كفنٍّ سامِق في دوْحة الأدب، وذروة شامخة في استجلاب الودّ، وإبعاد الكدر من النفوس.
♦ كان المنصورُ غاضبًا على الشاعر إبراهيم بن هَرْمة لشِعر قاله، ثم إنَّه وفَد على المنصور في وفْد أهل المدينة، فجلسوا إلى سِتر دون المنصور، يرى الناسَ من ورائه ولا يرونه، وأبو الخُصَيب الحاجب واقفٌ يقول: يا أميرَ المؤمنين، هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول: هذا فلان الشاعر، فيأمره فينشد، حتى كان من آخرهم ابن هَرْمة، فحين قدَّمه أبو الخصيب، قال المنصور: لا مرحبًا ولا أهلاً، ولا أنعم الله بك عينًا! فسمعها ابن هَرْمة وأُسْقِط في يده، وقال في نفسه: هلكت، ثم استنشده قصيدتَه التي يقول فيها:
سَرَى ثَوْبَهُ عَنْكَ الصِّبَا الْمُتَجَابِلُ
وَقَرَّبَ لِلْبَيْنِ الْخَلِيطُ الْمُزَايلُ
حتى انتهى إلى قوله:
فَأَمَّا الَّذِي أَمَّنْتَهُ يَأْمَنُ الرَّدَى
وَأَمَّا الَّذِي حَاوَلْتَ بِالثُّكْلِ ثَاكِلُ
فأمَر برفْع الحِجاب، فإذا وجهُه كأنه فلقة قمر، فاستنشده بقيَّة القصيدة، وأمره بالقُرْب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحَك يا إبراهيم، لولا ذنوبٌ بلغتْني عنك لفضلتُك على أصحابك، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، كلُّ ذنب بلغك عني لم تعفُ عنه، فأنا مقرٌّ به، قال: فتناول المخصرة فضرَبَني بها ضربتَين، وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة، وعفا عني، وألحقني بنظرائي، وكان من جملة ما نَقَم عليه المنصور قوله:
وَمَهْمَا أُلاَمُ عَلَى حُبِّهِمْ
فَإِنِّي أُحِبُّ بَنِي فَاطِمَهْ
بَنِي بِنْتِ مَنْ جَاءَ بِالْمُحْكَمَاتِ
وَبِالدِّينِ وَالسُّنَّةِ الْقَائِمَهْ
فَلَسْتُ أُبَالِي بِحُبِّي لَهُمْ
سِوَاهُمْ مِنَ النَّعَمِ السَّائِمَهْ