العفو عند المقدرة:
العفو عندَ المقدِرة من الخِصال الحميدة التي تستهوي النفوسَ، وتستجلب الثناء، وتبعث على الإشادة بها، والتنويه بها، وهي خَصلة صَعْبة المرتقَى، جميلة النهاية، ذلك أنَّ الذي يستطيع التغلُّبَ على عاطفة الانتقام، ومجاهدة النفس في موْطِن يشرئب فيه الإنسانُ إلى إرواء ظمئِه المتعطِّش للتشفي - هم قلَّة من كثرة، وندرة بين جمهرة، فلا عجب أن حازوا الثناء، واستحقُّوا التقدير والإعزاز، ورُويتْ قصصُهم مثلاً حريًّا بالاقتداء.
♦ قيل: أَسَر مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار، فأمر بضَرْب عنقه، فقال: أيُّها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يومَ القِيامة إلى صورتك هذه الحسنة، فأتعلَّق بأطرافك، وأقول: ربِّ سلْ مصعبًا فيما قتلني؟ فقال: أطلقوه، فقال: أيُّها الأمير، اجعل ما وهبتَ لي من عمري في خفْض عَيْش، فقال: أعطوه مائةَ ألف درهم، قال: بأبي أنت وأمِّي، أُشْهِدك أنَّ لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفًا، قال: لِم؟ قال: لقوله فيك:
إِنَّمَا مُصْعَبٌ شِهَابٌ مِنَ اللَّ
هِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيهِ
جَبَرُوتٌ وَلاَ لَهُ كِبْرِيَاءُ
فضَحِك مصعب، وقال: لقد تلطفتَ، وإن فيك لموضعًا للصَّنيعة، وأمر له بمائة الألف، ولابن قيس الرقيَّات بخمسين ألف درهم.
♦ كان محمَّد بن حُمَيد الطُّوسي على غَدائه يومًا مع جلسائه، وإذا بضجَّة على باب داره، فرَفَع رأسه، وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجَّة؟ من كان على الباب فليدخل، فخرج الغلام ثم عاد إليه، وقال: إنَّ فلانًا أخذ، وقد أُوثق بالحديد، والغلمان ينتظرون أمرَك فيه، فرفع يدَه عن الطعام، فقال رجل من جلسائه: الحمدُ لله الذي أمكنَك من عدوِّك، فسبيله أن تسقي الأرْضَ من دَمِه، وأشار كلٌّ من جلسائه عليه بقَتْله على صِفة اختارها، وهو ساكت، ثم قال: يا غلام، فكَّ عنه وَثاقَه، ويدخل إلينا مكرمًا، فأدخل عليه رجلٌ لا دم فيه، فلمَّا رآه هشَّ إليه، ورفع مجلسه، وأمر بتجديد الطعام، وبسَطَه بالكلام ولقمه، حتى انتهى الطعام، ثم أمَر له بكسوة حَسَنة وصِلة، وأمر بردِّه إلى أهله مكرمًا، ولم يعاتبه على جُرْم ولا جناية.
ثم التفَتَ إلى جُلسائه، وقال لهم: إنَّ أفضل الأصحاب مَن حضَّ الصاحب على المكارِم، ونهاه عن ارْتكاب المآثِم، وحسَّن لصاحبه أن يجازيَ الإحسان بضِعْفه، والإساءةَ بصَفْحه، إنَّا إذا جازينا مَن أساء إلينا بمِثل ما أساء، فأين موقِعُ الشكر على النِّعمة فيما أتيح مِن الظفر؟!
إنَّه ينبغي لِمَن حضر مجالس الملوك أن يُمسك إلاَّ عن قولٍ سديد، وأمْر رشيد، فإنَّ ذلك أدومُ للنِّعمة، وأجمع للأُلْفة، إنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].