فإنَّ الله - تعالى - جعل الدنيا محفوفةً بالكُره والسرور، فمَن ساعده الحظُّ فيها سكَن إليها، ومَن عضتْه بنابِها ذمَّها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا لها.
وقد كانتْ أذاقتْنا أفاويق استحليناها، ثم جمحتْ بنا فاخرةً، ورمحتنا مولية، فمَلُح عذبُها، وخَشُن لينُها، فأبعدتنا من الأوطان، وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة، والطير بارحة، وقد كتبتُ والأيام تزيدنا منكم بُعدًا، وإليكم وَجْدًا، فإن تتمَّ البلية إلى أقْصى مدتها يكن آخِر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارِح من أظفار مَن يليكم نرجعْ إليكم بذُلِّ الإسار، والذلُّ شرُّ جار نسأل الله الذي يُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء أن يهبَ لنا ولكم أُلْفةً جامعة، في دار آمنة، تجمع سلامة الأبدان والأديان، فإنَّه رب العالمين، وأرحم الراحمين.
♦ قال حكيم لبَنيه: يا بَنيّ، إيَّاكم والجزعَ عند المصائب، فإنه مجلبةٌ للهمّ، وسوء ظنٍّ بالربّ، وشماتة للعدوّ، وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترِّين، ولها آمنين، فإني والله ما سخرتُ من شيء إلا نَزَل بي مثلُه، فاحذروها وتوقعوها.
فإنما الإنسان في الدنيا غرَضٌ تتعاوره السهام، فمجاز له ومقصر عنه، وواقع عن يمينه وشماله، حتى يصيبَه بعضُها.
واعلموا أنَّ لكل شيء جزاءً، ولكلِّ عمل ثوابًا، وقد قالوا: كما تَدِين تُدان، ومن برَّ يومًا بُرَّ بِه.
♦ أوْصَى قيس بن عاصِم بنيه، فقال: يا بَنيّ، احفظوا عنِّي، فلا أحدَ أنصحُ لكم مني، إذا متُّ فسَوِّدوا كباركم، وعليكم باستصلاح المال، فإنه منبهة للكريم، ويُسْتغنى به عن اللئيم، وإيَّاكم ومسألةَ الناس، فإنها آخِرُ كسب الرجل.