الحياة الصافية:
الحياةُ الصافية مِنَ الكَدر، والهانئة من التَّعب، والخالية من المنغِّصات، هي حياةٌ وهمية، يَحلُم بها الفلاسفة، وتُراوِد أحلام الخياليِّين، ولكنها في عالم الواقع مستحيلة.
إنَّ الحياة جُبِلت على الكَدر، ومُزِجت بالآلام، واقترن فيها السرورُ بالحزن، والفرحُ بالغمّ، والبهجةُ بالترَح، والعاقلُ يسعى للتخفيف مِن آلامها في حدود ما يَقدِر عليه، ويحاول أن يُسهِم في هناء البشرية وسعادتها بما يحتمله، ويصبر على البأساء والضرَّاء، ويَحْمَد الله على المسرَّات والنعماء، فلا يؤدِّي به الحزنُ إلى الجزع، ولا يُفْضي به الألمُ إلى اليأس، بل يكون المؤمِن القوي الصابر المجاهد، الذي يسعى للخير جهدَه، ولا تذهب نفسُه حسراتٍ على ما فات، ولا يُصيبه الخَور والوهن عندَ المصائب، ويلتجئ إلى الله - تعالى - ويسأله السلامةَ والعافية، والعونَ والغُفْران، ويكون مَثَلاً للمؤمن التقيِّ الصادق، الذي لا يغرُّه الأَشَرُ والبَطَر والخُيلاء، ولا يركن للكسل والخنوع، والذِّلَّة والمهانة، الصابر عندَ المصيبة، الشاكر عند النعمة.
ومَن يريد الحياة صفوًا بلا كدر، وهناءً بلا تعب، ومرحًا بلا أحزان، فقدْ رام المستحيل، وتتطلَّب غير الممكن، وأجهد نفسَه فيما لا طاقة له به، فالحياةُ تجمع الأضداد، وتحوي المتناقضات، ويلتقي فيها الشيءُ وعكسه، ومِن ثَمَّ كان الصبر والشكر كجناحَيِ الطائر، ينبغي للمؤمن أن يتسلَّح بهما، وأن يكون صابرًا شاكرًا، حتى تقرَّ عينُه، وتهدأ نفسه، ويزداد يقينه، ويرسخ إيمانه، وفي الدار الأخرى حُسْن الثواب، ورِضا الملك الوهَّاب، الذي لا تنفد خزائنُه، ولا ينقص بما يعطيه وإن عَظُم، له الحمدُ والثناء، وله الشكر على نِعَمه التي لا تُحصى.
♦ قال زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يُوفِ لاَ يُذْمَمْ وَمَنْ يُفْضِ قَلْبُهُ
إِلَى مُطْمَئِنِّ الْبِرِّ لاَ يَتَجَمْجَمِ
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ
وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ
عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ
♦ قال بعض الشعراء في الصبر:
وَإِذَا ابْتُلِيتَ بِمِحْنَةٍ فَالْبَسْ لَهَا
ثَوْبَ السُّكُوتِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ
لاَ تَشْكُوَنَّ إِلَى الْعِبَادِ فَإِنَّمَا
تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لاَ يَرْحَمُ
♦ قال الأصمعيُّ: بلغَنِي عن شيخ جزع على ميِّت جزعًا شديدًا، فقيل له في ذلك، فقال: نحن قومٌ لم نتعوَّدِ الموت.
♦ نزل يهوديٌّ على أعرابي فمات عنده، فقام الأعرابيُّ يصلِّي عليه، فقال: اللهمَّ إنَّه ضيْف، وحقُّ الضَّيْف ما قد علمت، فأمهِلْنا إلى أن نقضي ذمامَه، ثم شأنَك والكَلْب.
♦ قال بعض الشعراء:
إِمَّا تَرَيِني وَأَثْوَابِي مُقَارِبَةٌ
لَيْسَتْ بِخَزٍّ وَلاَ مِنْ نَسْجِ كَتَّانِ
فَإِنَّ فِي الْمَجْدِ هِمَّاتِي وَفِي لُغَتِي
عُلْوِيَّةً وَلِسَانِي غَيْرُ لَحَّانِ
♦ قال الشاعر:
بَكَتْ دَارُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فَتَهَلَّلَتْ
دُمُوعِي فَأَيَّ الْجَازِعِينِ أَلُومُ
أَمُسْتَعْبِرًا يَبْكِي عَلَى اللَّهْوِ وَالْبِلَى
أَمَ اخَرَ يَبْكِي شَجْوَهُ فَيَهِيمُ
♦ مات ذِرُّ بن عمر بن ذِر الهمذاني، فوقف أبوه على قبرِه، فقال: يا ذرّ، والله ما بِنا إليك مِن فاقة، أو ما بنا إلى أحدٍ سوى الله مِن حاجة، يا ذرّ، شغلني الحزنُ لك عن الحزن عليك، ثم قال: اللهمَّ إنك وعدتَني بالصبر على ذرٍّ صلواتِك ورحمتَك، اللهمَّ وقد وهبتُ ما جعلت لي مِن أجْر على ذرٍّ لذرّ، فلا تُعرِّفْه قبيحًا مِن عمله، اللهمَّ وقد وهبتُ له إساءته إليّ، فهَبْ إساءته إلى نفسه، فإنَّك أجود وأكرم، فلما انصرف عنه التفتَ إلى قبره، وقال: يا ذرّ، قد انصرفنا عنك وتركْناك، ولو أقمْنا ما نفعناك.
♦ اعتلّ الحرمازيُّ، وكان له صديق من الهاشميِّين فلم يَعُدْه، فكتب إليه:
مَتَى تَنْفَكُّ وَاجِبَةُ الْحُقُوقِ
إِذَا كَانَ اللِّقَاءُ عَلَى الطَّرِيقِ
إِذَا لَمْ يَكْفِهِ إِلاَّ سَلاَمٌ
فَمَا يَرْجُو الصَّدِيقُ مِنَ الصَّدِيقِ
مَرِضْتُ وَلَمْ تَعُدْنِي مُنْذُ شَهْرٍ
وَلَيْسَ كَذَاكَ فِعْلُ أَخٍ شَقِيقِ
♦ كتب إبراهيم بن يحيى الأسلميُّ إلى المهديِّ يُعزِّيه في ابنته: