والعزلة أيضًا:
مِن الناس مَن يُفضِّل العزلة، ويرتاح للانزواء، ويبتعد عن مخالطة الناس، ويحسب في ذلك النجاةَ والسلامة، ومنهم مَن يُضيِّع أوقاته سُدًى، ويُمضي أيَّامه ولياليَه فيما لا جدوى منه ولا فائدة، وقد يكون فيه الإثمُ والأوزار، كالقيل والقال، والغِيبة والنميمة، والوِشاية، وإفساد ذات البَيْن، وزرْع الشُّكوك، والفُرقة والخِصام، وإثارة العصبيات الجاهليَّة، والأحقاد القديمة، وتفكيك الروابط الأُخويَّة، والصِّلات السامية.
وخيرٌ للمرء أن يُخالِط الناس في الخير، وينأى عن الشر، وأن يكون مُرشِدًا إلى الصالح، محذِّرًا عن الضارّ، متعاونًا مع إخوانه على البرِّ والتقوى، وما يعود بالنفع والصلاح.
♦ قال المنصور: صحبتُ رجلاً ضريرًا إلى الشام وهو يريد مرْوان بن محمَّد بشِعر مدَحَه به، فسألتُه أن ينشدنيه فأنشد:
لَيْتَ شِعْرِي أَفَاحَ رَائِحَةَ الطِّي
بِ وَمَا إِنْ إِخَالَ بِالْخَيْفِ إِنْسِي
حِينَ غَابَتْ بَنُو أُمَيَّةَ عَنْهُ
وَالْبَهَالِيلُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ
خُطَبَاءٌ عَلَى الْمَنَابِرِ فُرْسَا
نٌ عَلَيْهَا وَقَالَةٌ غَيْرُ خُرْسِ
لاَ يُعَابُونَ صَامِتِينَ وَإِنْ قَا
لُوا أَصَابُوا وَلَمْ يُعَابُوا بِلَبْسِ
بِحُلُومٍ إِذَا الْحُلُومُ اسْتَخَفَّتْ
وَوُجُوهٍ مِثْلِ الدَّنَانِيرِ مُلْسِ
قال: فواللهِ ما فَرَغ من إنشاده حتى ظننتُ أنَّ العمى قد أدركني، وحججتُ في سنة إحدى وأربعين ومائة وأنا خليفة، فنزلتُ عن الجهازة (الناقة المسرعة) أمشي في جبلي زرود لنذرٍ كان عليّ، فإذا أنا بالضَّرير فأومأتُ إلى مَن معي أن تأخَّروا، وتقدَّمتُ إليه، فسلمتُ عليه وأخذتُ بيده، فقال: مَن أنت - جعلني الله فداك؟ قلت: رفيقُك إلى الشام وأنت تريد مرْوان بن محمَّد، فسلَّم عليّ، وأنشأ يقول:
آمَتْ نِسَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَهُمْ
وَبَنَاتُهُمْ بِمَضِيعَةٍ أَيْتَامُ
نَامَتْ جُدُودُهُمُ وَأُسْقِطَ نَجْمُهُمْ
وَالنَّجْمُ يَسْقُطُ وَالْجُدُودُ تَنَامُ
خَلَتِ الْمَنَابِرُ وَالْأَسِرَّةُ مِنْهُمُ
فَعَلَيْهُمُ حَتَّى الْمَمَاتِ سَلاَمُ
قلت له: كم كان مرْوان أعطاك؟ قال: أغناني، فلا أسأل أحدًا بعدَه.
أعْطاني أربعة آلاف دينار، وملَّكني الجواري والغِلمان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قال المنصورُ فهممتُ به، ثم ذكرتُ حُرْمة الصحبة، فقلت له: أتعرفني؟ قال: ما أثبتك من معرفة، ولا أنكرك مِن سوء، قلت: أنا المنصور أميرُ المؤمنين، فوقع عليه الرِّعْدة، ثم قال: يا أميرَ المؤمنين، أقِلْني عثرتي، فإنَّ القلوب جُبِلت على حبِّ مَن أحسن إليها، وبُغْض مَن أساء إليها، فانصرفتُ عنه، فلما نزلت المنزل بدَا لي مسامرة الضرير، فتقدمت بطلبه فلم يُرَ.