اختيار الصديق:
اختيارُ الصَّدِيق مِن أوْلى ما ينبغي الاعتناءُ به، فالصَّدِيق الذي يستحقُّ عن جدارة أن يُلقَّب بهذا اللَّقب هو الذي يُسرُّ بسرور صديقه، ويحزن لحزنه، ويحرِص على توفير الراحة له، وإبعاد ما يزعجه، وهو مشير ناصِح، يعامل صديقَه بتبسُّط، ورَفْع الكلفة مع بقاء المودَّة، وعدم التطاول عليه بما يُسيء إليه، أو يوغِر صدرَه، أو يُسبِّب له آلامًا، وفي الغَيْب يذبُّ عنه، وينشر محاسنَه.
من هو الصديق؟
يقول أحمد بن مشرف:
حَقِيقَةُ الصَّدِيقِ
تُعْرَفُ عِنْدَ الضِّيقِ
وَتُخْبِرُ الْإِخْوَانْ
إِذَا جَفَا الزَّمَانْ
لاَ خَيْرَ فِي إِخَاءِ
يَكُونُ فِي الرَّخَاءِ
وَإِنَّمَا الصَّدَاقَهْ
فِي الْعُسْرِ وَالْإِضَاقَهْ
لاَ تَدَّخِرْ مَوَدَّهْ
إِلاَّ لِيَوْمِ الشِّدَّهْ
وَلاَ تُعَدُّ الْخِلَّهْ
إِلاَّ لِسَدِّ الْخَلَّهْ
أَعِنْ أَخَاكَ وَاعْضُدِ
وَكُنْ لَهُ كَالْعَضُدِ
لاَ سَيَّمَا إِنْ قَعَدَا
بِهِ زَمَانٌ أَوْ عَدَا
بِئْسُ الْخَلِيلُ مَنْ نَكَلْ
عَنْ خِلِّهِ إِذَا اتَّكَلْ
لاَ تَجْفُ عَنْ حَالٍ أَخَا
ضَنَّ الزَّمَانُ أَوْ سَخَا
♦ قال عبدالملك بن مرْوان: إيَّاك ومصاحبةَ الأحمق، فإنه ربما أراد أن ينفعك فضرَّك.
♦ وقال أبو الأسود الدؤلي:
أَلَمْ تَرَ مَا بَيْنِي وَبَيْنِ ابْنِ عَامِرٍ
مِنَ الْوُدِّ قَدْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
فَأَصْبَحَ بَاقِي الْوُدِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالدَّهْرُ فِيهِ عَجَائِبُ
فَمَا أَنَا بِالْبَاكِي عَلَيْهِ صَبَابَةً
وَلاَ بِالَّذِي مَلَّتْكَ مِنْهُ الْمَثَالِبُ
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُحْبِبْكَ إِلاَّ تَكَرُّهًا
بَدَا لَكَ مِنْ أَخْلاَقِهِ مَا يُغَالِبُ
فَدَعْهُ فَصُرْمُ الْمَوْتِ أَهْوَنُ حَادِثٍ
وَفِي الْأَرْضِ لِلْمَرْءِ الْكَرِيمِ مَذَاهِبُ
♦ وقال الإمام الشافعي:
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا
وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
وَنَهْجُو ذَا الزَّمَانَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ
وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ لَنَا هَجَانَا
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئْبٍ
وَيَأْكُلُ بَعْضُنَا بَعْضًَا عَيَانَا
♦ قال أبو فروة:
إِنِّي مَدَحْتُكَ كَاذِبًا فَأَثَبْتَنِي
لَمَّا مَدَحْتُكَ مَا يُثَابُ الْكَاذِبُ
♦ أثنى رجلٌ على عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأفرط، فقال عليٌّ - وكان يتَّهمه - أنا دون ما تقول، وفوقَ ما في نفسك.
♦ قال كعب بن مالك:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْوُدَّ لَيْسَ بِنَافِعِي
لَدَيْهِ وَلاَ رَاثٍ لِحَالَةِ مُوجَعِ
زَجَرْتُ الْهَوَى إِنِّي امْرُؤٌ لاَ يَقُودُنِي
هَوَايَ وَلاَ رَأْيِي إِلَى غَيْرِ مَطْمَعِ
♦ وقال أبو تمام:
ذُو الْوُدِّ مِنِّي وَذُو الْقُرْبَى بِمَنْزِلَةٍ
وَإِخْوَتِي أُسْوَةٌ عِنْدِي وَإِخْوَانِي
عِصَابَةٌ جَاوَرَتْ آدَابُهُمْ أَدَبِي
فَهُمْ وَإِنْ فُرِّقُوا فِي الْأَرْضِ جِيرَانِي
أَرْوَاحُنَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَغَدَتْ
أَجْسَامُنَا لِشَآمٍ أَوْ خُرَاسَانِ
♦ قال هشام بن عبدالملك: قد أكلتُ الحلو والحامض، حتى ما أجد لواحدٍ منهما طعمًا، وشممتُ الطِّيب، حتى ما أجد له رائحة، وأتيتُ النساء، حتى ما أُبالي امرأةً أتيتُ أم حائطًا، فما وجدتُ شيئًا ألذَّ مِن جليس تسقط بيْني وبينه مؤونةُ التحفُّظ.
♦ وأنشد أحمد بن يحيى:
فَأُقْسِمُ مَا تَرْكِي عِتَابَكَ عِنْ قِلًى
وَلَكِنْ لِعِلْمِي أَنَّهُ غَيْرُ نَافِعِ
وَإِنِّي إِذَا لَمْ أَلْزَمِ الصَّمْتَ طَائِعًا
فَلاَ بُدَّ مِنْهُ مُكْرَهًا غَيْرَ طَائِعِ
وَلَوْ أَنَّ مَا يُرْضِيكَ عِنْدِي مُمَثَّلٌ
لَكُنْتُ لِمَا يُرْضِيكَ أَوَّلَ تَابِعِ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْكَ إِلاَّ شَفَاعَةٌ
فَلاَ خَيْرَ فِي وُدٍّ يَكُونُ بِشَافِعِ
♦ وقال الشاعر:
وَلَيْسَ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ شِيمَةِ الْفَتَى
وَلَكِنْ أَحَاظٍ قُسِّمَتْ وَجُدُودُ
إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ الْمُرُوءَةُ نَاشِئًا
فَمَطْلَبُهَا كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ
وَكَائَِنْ رَأَيْنَا مِنْ غَنِيٍّ مُذَمَّمٍ
وَصُعْلُوكِ قَوْمٍ مَاتَ وَهْوَ حَمِيدُ
وَإِنَّ امْرَأً يُمْسِي وَيُصْبِحُ سَالِمًا
مِنَ النَّاسِ إِلاَّ مَا جَنَى لَسَعِيدُ
♦ وقال النابغة الذُّبياني:
إِنَّ أَخَاكَ الصِّدْقَ مَنْ كَانَ مَعَكْ
وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ
وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَكْ
شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ
♦ وقال أبو الأسود الدؤلي:
فَلاَ تُشْعِرَنَّ النَّفْسَ يَأْسًا فَإِنَّمَا
يَعِيشُ بِجِدٍّ حَازِمٌ وَبَلِيدُ
وَلاَ تَطْمَعَنْ فِي مَالِ جَارٍ لِقُرْبِهِ
فَكُلُّ قَرِيبٍ لاَ يُنَالُ بَعِيدُ
♦ وقال أيضًا:
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ
وَأَسْلَمِنِي طُولُ الْبَلاَءِ إِلَى الصَّبْرِ
وَوَسَّعَ صَدْرِي لِلْأَذَى كَثْرَةُ الْأَذَى
وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي
إِذَا أَنَا لَمْ أَقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ كُلَّ مَا
أُلاَقِيهِ مِنْهُ طَالَ عُتْبِي عَلَى الدَّهْرِ
♦ وقال عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر:
أَصُدُّ صُدُودَ امْرِئٍ مُجْمِلٍ
إِذَا حَالَ ذُو الْوُدِّ عَنْ حَالِهِ
وَلَسْتُ بِمُسْتَعْتِبٍ صَاحِبًا
إِذَا جَعَلَ الصَّرْمَ مِنْ بَالِهِ
وَلَكِنَّنِي صَارِمٌ حَبْلَهُ
وَذَلِكَ فِعْلِي بِأَمْثَالِهِ
وَمَهْمَا أَدَلَّ بِحَقٍّ لَهُ
عَرَفْتُ لَهُ حَقَّ إِدْلاَلِهِ
وَإِنِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ لَهُ
مِنَ ادْبَارِ وُدٍّ وَإِقْبَالِهِ
لَرَاعٍ لِأَحْسَنِ مَا بَيْنَنَا
بِحِفْظِ الْإِخَاءِ وَإِجْلاَلِهِ
♦ وقال الشاعر:
فَلاَ تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ
وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى
حَلِيمًا حِينَ آخَاهَ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ
إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَفِي الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ
مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
♦ وقال الشاعر:
عَجِبْتُ لِإِدْلاَلَ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ
وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْحَقِّ أَعْلَما
وَفِي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْعَيِيِّ وَإِنَّمَا
صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا
♦ وقال بعضُ الحكماء: أيسرُ شيء الدخول في العداوة، وأصعبُ شيء الخروج منها.
♦ وقال أعرابي في ابن عمٍّ له يُسمَّى زيادًا:
مَنْ يُبَادِلُنِي قَرِيبًا
بِبَعِيدٍ مِنْ إِيَادِ
مَنْ يُقَادِرْ مَنْ يُطَافِسْ
مَنْ يُنَازِلْ بِزِيَادِ
♦ وقال أحد الشعراء:
إِذَا خَانَنِي خِلٌّ قَدِيمٌ وَعَقَّنِي
وَفَوَّقْتُ يَوْمًا فِي مَقَاتِلِهِ سَهْمِي
تَعَرَّضَ طَيْفُ الْوُدِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
فَكَسَّرْتُ سَهْمِي فَانْثَنَيْتُ وَلَمْ أَرْمِ
♦ وقال الحسين بن علي بن عبدالواحد النصيبي النديم:
تَبُوحُ بِسِرِّكَ ضِيقًا بِهِ
وتَبْغِي لِسِرِّكَ مَنْ يَكْتُمُ
وَكِتْمَانُكَ السِّرَّ مِمَّنْ تَخَافُ
وَمَنْ لاَ تَخَافُ هُوَ الْأَحْزَمُ
وَإْنْ ذَاعَ سِرُّكَ مِنْ صَاحِبٍ
فَأَنْتَ وَإِنْ لُمْتَهُ أَلْوَمُ
♦ قال عليٌّ - رضي الله عنه -: لا تقطعْ أخاك على ارتياب، ولا تهجرْه دون استعتاب.
♦ قال بعض البلغاء: مِن خير الاختيار صُحبةُ الأخيار، ومِن سوء الاختيار مودَّة الأشرار.
♦ وقال النابغة:
وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ
عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ
♦ وقال غيرُه:
وَحَظُّكَ زَوْرَةٌ فِي كُلِّ عَامٍ
مُوَافَقَةً عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ
سَلاَمًا خَالِيًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
يَعُودُ بِهِ الصَّدِيقُ عَلَى الصَّدِيقِ
♦ قال يونس النحوي:
لا تعادينَّ أحدًا وإن ظننتَ أنه لا يضرُّك، ولا تزهدنَّ في صداقة أحد وإن ظننتَ أنَّه لا ينفعك، فإنَّك لا تدري متَى تخاف عدوَّك، وترجو صديقك، ولا يعتذر أحدٌ إليك إلا قبلتَ عُذرَه، وإن علمتَ أنه كاذب، وليقلَّ عتبُ الناس على لسانك.