اعتياد الضجيج
تحولت حكاية الفتاة العربية التي تزوجت بشاب آسيوي من ولاية كيرلا على ما فهمت، ونقلت إحدى قنوات التلفزيون الهندي خبر زواجهما، باعتباره يشكل ظاهرة اجتماعية ذات دلالة ثقافية معينة، تحولت إلى خبر الأسبوع بالنسبة لمستخدمي أجهزة “بلاك بيري” في الإمارات، وبعد أن بدأت الحكاية برابط الخبر على القناة الهندية وسطر يشرحها باللغة العربية، وصلت إلى آخر مستخدم إلى عشرين سطراً ومئات التعليقات من قبل المستخدمين!
يبدأ الخبر على أجهزة “البي بي” شبراً، ثم يطول فيصير ذراعاً، ثم متراً فأكثر، كالإشاعة والكذبة والنكتة، فكل يضيف إليه ما يعبر عن وجهة نظره ورأيه وطريقة فهمه للخبر، أما الإشاعة، فإن الناس تستغلها لتفرغ بين سطورها ما يجول في خواطرها دون أن تتحمل نتيجة أو مسؤولية ما ستؤول إليه مجريات الإشاعة، وهذه واحدة من حسنات “بلاك بيري” وسيئاته في الوقت نفسه!!
البعض يرى في “بلاك بيري” - حسب قراءته للأوضاع - أنه طريقة لقول رأيه بوضوح، ولكن مختبئاً وراء أزرار وشاشة جهاز صغير كفيل بقول كل شيء وبأسرع مما يتصور أحد، إنه التطبيق العملي والحقيقي للعبارة التي تقول: وانتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، هكذا ينتشر الخبر وهكذا ينشره “بلاك بيري”.
حكاية الفتاة العربية صارت خبراً على التلفزة الهندية، فقد تم التعاطي معها على طريقة الأخبار الطريفة أو الأخبار التي تنم عن غرابة بالغة، فإن زواج شاب ملباري من فتاة عربية على الطريقة العربية وبزي عربي، قد شكل لمذيع الأخبار علامة استفهام، بينما فسر البعض الحكاية ببساطة على أنها حق لأي إنسان أن يرتبط بمن شاء، بينما قال آخر إن الاحتمال الأكبر الذي يجعل هذه الزيجة عادية جداً أن يكون الشاب ابن خالة الفتاة لا أكثر ولا أقل، بينما قالت مراهقة من الذين علقوا على الحكاية إن الشاب وسيم جداً ويشبه نجوم السينما الذين من السهل جداً أن تقع في غرامهم أي فتاة!!
الحكاية يمكن النظر إليها بطريقة أخرى لها علاقة بالتبدلات الجذرية التي يمر بها المجتمع العربي، بعد أن كبر الجيل الأول والثاني من الزيجات المختلطة التي ارتبط بها مواطنون عرب عبر العقود السابقة، وأن وجود علاقات قربى من الدرجة الأولى ومن جنسيات مختلفة بأبناء وبنات عرب سيقود حتماً لزيجات من هذا النوع، ما يجعلنا على استعداد لسماع أخبار مقبلة حول زيجات أكثر طرافة، وعش رجباً ترى عجباً، كما قال الأوائل، مع أننا ما عدنا في الحقيقة نتعجب من شيء على الإطلاق، فنحن في زمن العجائب أصلاً.
“بلاك بيري” وكل الأجهزة الحديثة عملت على تجسير الفجوات والمسافات بين أذهان الناس ودرجة قبولهم وتقبلهم لسلوكيات وتصرفات، ما كان بالإمكان المرور عليها مرور الكرام، وكل خبر يبدأ غريباً وطريفاً وغير عادي يتحول مع مرور الزمن إلى عادي وأقل من عادي بحكم الاعتياد، وعلى قاعدة الإلغاء بالتعود ، فأنت تعتاد صوت الطائرة التي تعبر فوق رأسك بكل ضجيجها المخيف إذا سكنت قريباً من المطار، وباستمرار عبورها يقوم عقلك بإلغاء تأثيرها، فتصير أمراً عادياً جدا.